63 - (وعباد الرحمن) مبتدأ وما بعده صفات له إلى اولئك يجزون غير المعترض فيه (الذين يمشون على الأرض هونا) بسكينة وتواضع (وإذا خاطبهم الجاهلون) بما يكرهونه (قالوا سلاما) أي قولا يسلمون فيه من الإثم
يقول تعالى ذكره " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " بالحلم و السكينة و الوقار غير مستكبرين ، ولا متجبرين ، ولا ساعين فيها بالفساد و معاصي الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا ، فقال بعضهم : عني بقوله " يمشون على الأرض هونا " أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " الذين يمشون على الأرض هونا " قال : بالوقار و السكينة .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد " يمشون على الأرض هونا " قال : بالحلم و الوقار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " يمشون على الأرض هونا " قال : بالوقار والسكينة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " يمشون على الأرض هونا " بالوقار والسكينة .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا شريك ، عن سالم عن سعيد و عبد الرحمن " الذين يمشون على الأرض هونا " قالا : بالسكينة والوقار .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن عمار ، عن عكرمة ، في قوله " يمشون على الأرض هونا " قال : بالوقار والسكينة .
قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي " يمشون على الأرض هونا " قال : بالوقار والسكينة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يمشون عليها بالطاعة و التواضع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " الذين يمشون على الأرض هونا " بالطاعة والعفاف والتواضع
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " قال : يمشون على الأرض بالطاعة .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : كتب إلي إبراهيم بن سويد ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : التمست تفسير هذه الآية " الذين يمشون على الأرض هونا " فلم أجدها عند أحد ، فأتيت في النوم ، فقيل لي : هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض .
حدثنا أبو كريل ، قال: ثنا ابن يمان ، عن أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : لا يفسدون في الأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " قال : لا يتكبرون على الناس ، ولا يتجبرون ، ولا يفسدون . وقرأ قول الله : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " القصص : 83 .
و قال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي الأشهب ،عن الحسن ، في : " يمشون على الأرض هونا " قال : حلماء ، وإن جهل عليهم لم يجهلوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة " يمشون على الأرض هونا " قال : حلماء .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن ، في قوله " يمشون على الأرض هونا " قال : علماء حلماء لا يجهلون .
وقوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " يقول : وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول ، أجابوهم بالمعروف من القول ، و السداد من الخطاب .
و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو الأشهب ، عن الحسن " و إذا خاطبهم " ... الآية ، قال : حلماء ، و إن جهل عليهم لم يجهلوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن المختار ، عن الحسن ، في قوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " قال : إن المؤمنين قوم ذلل ، ذلك منهم والله الأسماع والأبصار و الجوارح ، حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، وإنهم لأصحاء القلوب ، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، و منعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، والله ما حزنهم حزن الدنيا ، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخنف من النار ، و إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ، و من لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم و مشرب ، فقد قل علمه ، و حضر عذابه .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " قال : سدادا .
حدثنا ابن بشار ، قال ، ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " . قال : سدادا من القول .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " حلماء .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : حلماء لا يجهلون ، و إن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا ، هذا نهارهم فكيف ليلهم ؟ خير ليل صفوا أقدامهم ، و أجروا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جل ثناؤه في فكاك رقابهم .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبادة ، عن الحسن ، قال : حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا .
قوله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا "
لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضاً وذكر صفاتهم ، وأضافهم إلى عبوديته تشريفاً لهم ، كما قال : " سبحان الذي أسرى بعبده " [ الإسراء : 1 ] وقد تقدم . فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذيؤ يستحق اسم العبودية ، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى : " أولئك كالأنعام بل هم أضل " [ الأعراف : 179 ] يعني في عدم الاعتبار ، كما تقدم في الأعراف . وكأنه قال :وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض ، فحذف هم ، كقولك : زيد الأمير ، أي زيد هو الأمير . فـ" الذين " خبر مبتدأ محذوف ، قاله الأحفش . وقيل : الخبر قوله في آخر السورة : " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها ، قاله الزجاج . قال : ويجوز أن يكون الخبر " الذين يمشون على الأرض " . و" يمشون " عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك العظم ، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض ، وهو معاشرة الناس وخلطتهم . قوله تعالى " هونا " الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار . وفي التفسير : يمشون على الأرض حلماء متواضعين ، يمشون في اقتصاد . والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوى قال صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع " وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعاً ، ويخطو تكفؤاً ، ويمشي هواناً ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب . التقلع ، رفع الرجل بقوة والتكفؤ : الميل إلى سنن المشي وقصده . والهون الرفق والوقار ، والذريع الواسع الخطأ ، أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه ، خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته ، وكل ذلك برفق وتثبت بدون عجلة . كما قال : كأنما ينحط من صبب ، قاله القاضي عياض . وكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفاً . قال الزهري : سرعة المشي تذهب بهاء الوجه . قال ابن عطية : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار ، والخير في التوسط . وقال زيد بن أسلم : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : " الذين يمشون على الأرض هونا " فما وجدت من ذلك شفاء ، فرأيت في المنام من جاءني فقال لي : هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض قال القشيري : وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية ، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك وقد قال الله تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور " [ لقمان : 18 ] وقال ابن عباس : بالطاعة والمعروف والتواضع . الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا . وقيل : لا يتكبرون على الناس .
قلت : وهذه كلها معان متقاربة ، ويجمعها العلم بالله والخوف منه ، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ، جعلنا الله منهم بفضله ومنه ، وذهب فرقة إلى أن " هونا " مرتبط بقوله : " يمشون على الأرض " أن المشي هو هون . قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه ، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه . وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأنه رب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب . وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة . وقوله عليه الصلاة والسلام : " من مشى منكم في طمع فليمش رويداً " إنما أراد في عقد نفسه ، ولم يرد المشي وحده . ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط ، حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم :
كلهم يمشي رويد كلهم يطلب صيد
قلت : وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه :
تواضعت في العلياء والأصل كابر وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر
سكون فلا خبث السريرة أصله وجل سكون الناس من عظم الكبر
قوله تعالى : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " قال النحاس : ليس " سلاما " من التسليم إنما هو من التسليم ، تقول : سلاماً ، أي تسلما منك ، أي براءة منك . منصوب على أحد أمرين : يجوز أن يكون منصوباً بـ " قالوا " ، ويجوز أن يكون مصدراً ، وهذا قول سيبويه . قال ابن عطية : والذي أقوله : أن " قالوا " هو العامل في " سلاما " لأن المعنى قالوا هذا اللفظ . وقال مجاهد : معنى " سلاما " سداداً . أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين . فـ" قالوا " على هذا التأويل عامل في قوله : " سلاما " على طريقة النحويين ، وذلك أنه بمعنى قولاً . وقالت فرقة : ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاماً ، بهذا اللفظ . أي سلمنا سلاماً أو تسليماً ، ونحو هذا فيكون العامل فيه فعلاً من لفظه على طريقة النحويين .
مسألة : هذه الآية كانت قبل آية السيف ، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة . وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه ، وما تكلم فيه على نسخ سواه رجح به أن المراد السلامة لا التسليم ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة . والآية مكية فنسختها آية السيف . قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في الآية . قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله : تسلماً منكم ، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم . المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمين يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم محمد بن زيد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة . ابن العربي : لم يؤمر المسلمين يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ، ولا يداهنهم . وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك .
قلت : هذا القول أشبه بدلائل السنة . وقد بينا في سورة ( مريم ) اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ ، والله أعلم . وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت ، فإذا هو على سطح ، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا : استووا .
وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال . فقال لنا أعرابي إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا . قال الخليل : هو من قول الله عز وجل " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " [ فصلت : 11 ] فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبر فطير ، ولبن هجير ، وماء نمير ؟ فقلنا : الساعة فارقناه . فقال : سلاماً . فلم ندر ما قال . قال فقال الأعرابي : إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر . فقال الخليل : هو من قوله عز وجل " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " . قال ابن عطية : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي _ وكان من المائلين على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه _ قال يوماً بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي ابن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول : علي بن أبي طالب . فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها . فكنت أقول : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك . فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه . قال المأمون : وبما جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي سلاماً . قال الراوي : فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهب عنه في ذلك الوقت . فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عم علي بن أبي طالب ، وقد جاوبك بأبلغ جواب فخزي إبراهيم واستحيا . وكانت رؤيا لا محلة صحيحة .
هذه صفات عباد الله المؤمنين "الذين يمشون على الأرض هوناً" أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً" الاية, فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء, فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب, وكأنما الأرض تطوى له, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا".
وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله "وعباد الرحمن" الاية, قال: إن المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالاخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً, وكما قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" الاية. وروى الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي , عن النعمان بن مقرن المزني قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسب رجل رجلاً عنده, فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام, الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن ملكاً بينكما يذب عنك, كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به, وإذا قلت له وعليك السلام, قال: لا بل عليك وأنت أحق به". إسناده حسن, ولم يخرجوه.
وقال مجاهد "قالوا سلاماً" يعني قالوا سداداً. وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري : "قالوا سلاماً" حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون, ثم ذكر أن ليلهم خير ليل, فقال تعالى: "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" أي في طاعته وعبادته, كما قال تعالى: " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون " وقوله "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الاية, وقال تعالى: " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " الاية, ولهذا قال تعالى: "والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً" أي ملازماً دائماً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً, وإن يعط جزيلاً, فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله "إن عذابها كان غراماً" كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه, فليس بغرام, وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض, وكذا قال سليمان التيمي . وقال محمد بن كعب "إن عذابها كان غراماً" يعني ما نعموا في الدنيا, إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه, فأغرمهم فأدخلهم النار "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, وقال ابن أبي حاتم عند قوله "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها, فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف, قال: فيسقى كأساً من سم الأساود والعقارب, قال: فيميز الجلد على حدة, والشعر على حدة, والعصب على حدة, والعروق على حدة. وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد , عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البخت, وعقارب أمثال البغال الدلم, فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها, فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم, فكشطت لحومهم إلى أقدامهم, فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى , حدثنا سلام يعني ابن مسكين , عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان, فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا, فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون, فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره, فيقول الله عز وجل, ائتني به, فإنه في مكان كذا وكذا, فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل, فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل, فيقول الله عز وجل, ردوا عبدي, فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها, فيقول الله عز وجل, دعوا عبدي".
وقوله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" الاية, أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم, فيصرفون فوق الحاجة, ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم, بل عدلاً خياراً, وخير الأمور أوسطها, لا هذا ولا هذا, "وكان بين ذلك قواماً" كما قال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" الاية, وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد , حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني , عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبيدة الحداد , حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي , حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص , عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد" لم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى , حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون , حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى, وأحسن القصد في الفقر, وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى, فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عز وجل.
63- "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، وعباد الرحمن مبتدأ وخبره الموصول مع صلته، والهون مصدر، وهو السكينة والوقار. وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق بيمشون: أي يمشون على الأرض مشياً هوناً. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأنه رب ماش هوناً رويداً وهو ذئب أطلس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه فلا يجهلون مع من يجهل ولا يسافهون أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم تقول العرب سلاماً: أي تسلماً منك: أي براءة منك، منصوب على أحد أمرين: إما على أنه مصدر لفعل محذوف: أي قالوا سلمنا سلاماً، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مفعول به: أي قالوا هذا اللفظ، ورجحه ابن عطية. وقال مجاهد: معنى سلاماً سداداً: أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه برفق ولين. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليماً منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. قال المبرد: كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم، ثم أمروا بحربهم. وقال محمد بن يزيد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه فنسختها آية السيف. وأقول: هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ولا نهوا عنه، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ. قال النضر بن شميل: حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله "ثم استوى إلى السماء" قال: فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير؟ فقلنا الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر. قال الخليل: هو من قول الله "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً".
قوله عز وجل: 63- "وعباد الرحمن"، أي: أفاضل العباد. وقيل: هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله. "الذين يمشون على الأرض هوناً"، أي: بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ولا مرحين، ولا متكبرين. وقال الحسن: علماء وحكماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا، والهون في اللغة: الرفق واللين.
"وإذا خاطبهم الجاهلون"، يعني السفهاء بما يكرهون، "قالوا سلاماً"، قال مجاهد: سداداً من القول. وقال مقاتل بن حيان: قولاً يسلمون فيه من الإثم. وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا، وليس المراد منه السلام المعروف. وروي عن الحسن: معناه سلموا عليهم، دليله قوله عز وجل: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم" (القصص-55).
قال الكلبي وأبو العالية: هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسختها آية القتال.
وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم، ثم قرأ "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً"، قال: هذا وصف ليلهم.
64ـ " وعباد الرحمن " مبتدأ خبره " أولئك يجزون الغرفة " أو : " الذين يمشون على الأرض " وإضافتهم إلى " الرحمن " للتخصيص والتفضيل ، أو لأنهم الراسخون في عبادته على أن عباد جمع عابد كتاجر وتجار . " هوناً " هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " تسلماً منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر، أو سداداً من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم ، ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فإن المراد به الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام .
63. The (faithful) slaves of the Beneficent are they who walk upon the earth modestly, and when the foolish ones address them answer: Peace;
63 - And the servants of (God) Most Gracious are those who walk on the earth in humility, and when the ignorant address them, they say, Peace!;