(فإن تولوا) أعرضوا عن الإيمان (فإن الله عليم بالمفسدين) فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر
"فإن تولوا" يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى، عما جاءك مات الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان ، فأعرضوا عنه ولم يقبلوه ، "فإن الله عليم بالمفسدين"، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم ، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه ، وذلك هو إفسادهم ، يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم ، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "إن هذا لهو القصص الحق"، أي : إن هذا الذي جئت به من الخبر عن عيسى، "لهو القصص الحق"، من أ مره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "إن هذا لهو القصص"، إن هذا الذي قلنا في عيسى، "لهو القصص الحق".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "إن هذا لهو القصص الحق"، قال: إن هذا القصص الحق في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا ولا يجاوزه: أن يتعدى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم ، وروحاً منه ، وعبد الله ورسوله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "إن هذا لهو القصص الحق"، إن هذا الذي قلنا في عيسى، هو الحق ، "وما من إله إلا الله"، الآية.
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمره، إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأن عيسى عبده ورسوله، وأبوا إلا الجدل والخصومة، أن يدعوهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمر -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بملاعنتهم -يعني: بملاعنة أهل نجران- بقوله: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية، فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغد. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم ، فتابعاهم . فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم! وندمهم ، وقال لهم : إن كان نبياً ثم دعا عليكم لا يغضبه الله فيكم أبداً، ولئن كان ملكاً فظهر عليكم لا يستبقيكم أبداً. قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم : إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه ، فقولوا: نعوذ بالله! فإن دعاكم أيضاً فقولوا له: نعوذ بالله! ولعله أن يعفيكم من ذلك. فلما غدوا غدا النبي صلى الله عليه وسلم محتضناً حسناً آخذاً بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس، فقالوا: نعوذ بالله! ثم دعاهم فقالوا: نعوذ بالله! مراراً قال: فإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا! قال : فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدي الجزية . قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة: ألفاً في رجب ، وألفاً في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران ، حتى الطير على الشجر -أو: العصافير على الشجر- لو تموا على الملاعنة.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير قال : فقلت للمغيرة : إن الناس يروون في حديث أهل نجران أن علياً كان معهم! فقال : أما الشعبي فلم يذكره ، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في علي ، أو لم يكن في الحديث!
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "إن هذا لهو القصص الحق"، إلى قوله : "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة . فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمره بما أمره من ملاعنتهم إن ردوا عليه ، دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه . فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ قال : والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم: ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلى إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضىً.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله: "تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية، فأخذ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا. فخرج معهم . فلم يخرج يومئذ النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبي كغيرها!! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح : على أن له عليهم ثمانين ألفاً، فما عجزت الدراهم ففي العروض: الحلة بأربعين، وعلى أن له عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً، وثلاثاً وثلاثين بعيراً، وأربعة وثلاثين فرساً غازيةً كل سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتى نؤديها إليهم.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا وفداً من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه في عيسى، فنكصوا عن ذلك وخافوا"، وذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تدلى على أهل نجران ، ولو فعلوا لاستؤصلوا عن جديد الأرض".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليداعي أهل نجران، فلما رأوه خرج، هابوا وفرقوا فرجعوا، قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نجران، أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداء الله، رجعوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يباهلون النبي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد إلا أهلك الله الكاذبين".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا ابن زيد قال : "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم ، بمن كنت تأتي حين قلت: "أبناءنا وأبناءكم"؟ قال: حسن وحسين".
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال ، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: "لما نزلت هذه الآية: "فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم"، الآية، أرسل رسول الله إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم! أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردةً وخنازير؟! لا تلاعنوا! فانتهوا".
" فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين "
يقول جل وعلا: "إن مثل عيسى عند الله" في قدرة الله حيث خلقه من غير أب "كمثل آدم" حيث خلقه من غير أب ولا أم بل "خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فالذي خلق آدم من غير أب, قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى, وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب, فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى, ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل, فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً, ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر, كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى, ولهذا قال تعالى في سورة مريم "ولنجعله آية للناس" وقال ههنا: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين" أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه, وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " أي نحضرهم في حال المباهلة "ثم نبتهل" أي نلتعن "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" أي منا أو منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران, أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية, فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم, قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكباً, فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح, والسيد وهو الأيهم, و أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل , وأويس بن الحارث, وزيد, وقيس, ويزيد ونبيه, وخويلد, وعمرو, وخالد, وعبد الله, ويحنس , وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب, وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم, والذي لا يصدرون إلا عن رأيه, والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم, و أبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم, وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل, ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه, وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم, وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها, قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير , قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر, عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب , قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم: وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فصلوا إلى المشرق, قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة , و العاقب عبد المسيح , و السيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هو ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وكذلك قول النصرانية, فهم يحتجون في قولهم هو الله, بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام, ويخبر بالغيوب, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً, وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس, ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم, وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله, ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت, ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً ـ وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن, فلما كلمه الحبران, قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما قالا: قد أسلمنا, قال: إنكما لم تسلما فأسلما . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما, فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك, فقالوا: يا أبا القاسم, دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه, ثم انصرفوا عنه, ثم خلوا بالعاقب, وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل, ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط, فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم, فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم, فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا, فإنكم عندنا رضا, قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظهر مهجراً, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم ثم نظر عن يمينه وشماله, فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه, فقال :اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة , عن محمود بن لبيد , عن رافع بن خديج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر نحوه, إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر, وذكر بقيته بأطول من هذا السياق, وزيادات أخر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين , حدثنا يحيى بن آدم , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن صلة بن زفر , عن حذيفة رضي الله عنه, قال: " جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه, قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً, فقال : لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة, عن حذيفة , بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق , عن صلة , عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد , عن أبي قلابة , عن أنس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, " قال لكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح " وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد , حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال: قال أبو جهل قبحه الله, إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاتينه حتى أطأ على رقبته, قال: فقال لو فعل لأخذته الملائكة عياناً, ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار, ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً , وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق , عن معمر , عن عبد الكريم به, وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جداً, ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة, وفيه غرابة, وفيه مناسبة لهذا المقام, قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل , قالا: حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب , حدثنا أحمد بن عبد الجبار , حدثنا يونس بن بكير , عن سلمة بن عبد يسوع , عن أبيه , عن جده , قال يونس ـ وكان نصرانياً فأسلم ـ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب, من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم, فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد, وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب, والسلام". فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به, وذعره ذعراً شديداً, وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة , وكان من همدان, ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب, فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه, فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة, فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل, ليس لي في أمر النبوة رأي, ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك, فقال الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى شرحبيل فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل , وهو من ذي أصبح من حمير, فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل , فقال له الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى عبد الله فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس, فأقرأه الكتاب, وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله, فأمره الأسقف, فتنحى فجلس ناحية, فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً, أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, ورفعت النيران والمسوح في الصوامع, وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار, وإذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع, فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح, أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع, وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل, فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسألهم عن الرأي فيه, فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي , فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم, ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب, ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه, فلم يرد عليهم, وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً, فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب, فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف , وكانا معرفة لهم, فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس, فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن , إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له, فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا, وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً, فأعيانا أن يكلمنا, فما الرأي منكما, أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم, ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه, ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم, ثم قال "والذي بعثني بالحق, لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم . ثم سألهم سألوة, فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى, فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى, يسرنا إن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي فيه شيء يومي هذا, فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الاية " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فأبوا أن يقروا بذلك, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر, أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له, وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة, وله يومئذ عدة نسوة, فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي, وإني والله أرى أمراً ثقيلاً, والله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعناً في عينيه ورداً عليه أمره, لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة, وإنا لأدنى العرب منهم جواراً, ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه, لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك, فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال: أرى أن أحكمه, فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً, فقالا: له: أنت وذاك, قال: فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو ؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح, فمهما حكمت فينا فهو جائز, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل وراءك أحداً يثرب عليك ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي, فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه, فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم, وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة, في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة" وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع, لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح, وهي قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الاية, وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي , حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي , عن جابر , قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب, فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة, قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين, ثم أرسل إليهما, فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي بعثني بالحق لو قالا: لا, لأمطر عليهم الوادي ناراً" قال جابر , وفيهم نزلت "ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" قال جابر "أنفسنا وأنفسكم" رسول الله صلى الله عليه وسلم و علي بن أبي طالب " أبناءنا " الحسن والحسين "ونساءنا" فاطمة . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى , عن أحمد بن محمد الأزهري , عن علي بن حجر , عن علي بن مسهر , عن داود بن أبي هند به بمعناه, ثم قال: صحيح على شرط مسلم , ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي , عن شعبة , عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً, وهذا أصح, وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك, ثم قال الله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق" أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد " وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا " أي عن هذا إلى غيره "فإن الله عليم بالمفسدين" أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به, وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.
63- "فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين",
63-"فإن تولوا" أعرضوا عن الإيمان "فإن الله عليم بالمفسدين " الذين يعبدون غير الله ، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.
63"فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين" وعيد لهم ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد، إفساد للدين والإعتقاد المؤدي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.
63. And if they turn away, then Lo! Allah is Aware of (who are ) the corrupters.
63 - But if they turn back, God hath full knowledge of those who do mischief.