(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر) اختلط (بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا) ضيقا أو شكا (مما قضيت) به (ويسلموا) ينقادوا لحكمك (تسليما) من غير معارضة
قوله تعالى فلا وربك أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجهه ثم قال اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعب للزبير حقه وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة قال الزبير فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
وأخرج الطبراني في الكبير والحميدي في مسنده عن أم سلمة قالت خاصم الزبير رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قي قوله فلا وربك الآية قال أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلعتة اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل
ك وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود قال اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر بن الخطاب فأتيا إليه فقال الرجل قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا فقال ردنا إلى عمر فقال أكذاك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج اليكما فأقضي بينكما فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله فأنزل الله فلا وربك لا يؤمنون الآية مرسل غريب في إسناده ابن لهيعة وله شاهد أخرجه رحيم في تفسيره من طريق عتبة بن ضمرة عن أبيه
ك وأخرج ابن جرير عن السدي قال لما نزلت ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود فقال اليهودي والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا فقال ثابت والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا فأنزل الله ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا
وقوله تعالى ومن يطع الله أخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر اليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا اراك فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ومن يطع الله والرسول الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنك لو قدمت لرفعت فوقنا ولم نرك فأنزل الله ومن يطع الله والرسول الآية
وأخرج عن عكرمة قال أتى في النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت معي في الجنة إن شاء الله واخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع وقتادة والسدي
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فلا"، فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. واستأنف القسم جل ذكره فمال: "وربك"، يا محمد، "لا يؤمنون"، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك، "حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، يقول: حتى يجعلوك حكماً بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه.
يقال: شجر يشجر شجوراً وشجراً، و تشاجر القوم، إذا اختلفوا في الكلام والأمر، مشاجرة وشجا راً.
"ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت"، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً مما قضيت.
وإنما معناه: ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت، أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيت، وشكها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "حرجا مما قضيت"، قال: شكاً.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: "حرجا مما قضيت"، يقول: شكاً. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت"، قال: إثماً، "ويسلموا تسليما"، يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعاناً منهم بالطاعة، وإقراراً لك بالنبوة تسليماً.
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفيمن نزلت؟
فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العوام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ا لأمور.
ذكر الرواية بذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعيد، عن ابن شهاب: أن عروة بن الزبير حدثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلأهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر! فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه -قال أبو جعفر: والصواب (استوعب -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظ رسول صلى الله عليه وسلم الأنصاري، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم، قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، الآية.
حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أشرب، ثم خل سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: اعدل يا نبي الله، وإن كان ابن عمتك! قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدر -أو: إلى الكعبين- ثم خل سبيل الماء. قال: ونزلت: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم".
حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنزل الله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت".
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، قال: هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثاله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه، إلا أنه قال: إلى الكاهن.
قال أبو جعفر: وهذا القول- أعني قول من قال عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" أولى بالصواب، لأن قوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض- ما لم تأت دلالة على انقطاعه- أولى.
فإن ظن ظان أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرة، وقول من قال في خبرهما: فنزلت "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، ما ينبىء عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة. وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيعدل به عن معنى ما قبله.
وأما قوله:"ويسلموا"،فإنه منصوب عطفاً، على قوله: "ثم لا يجدوا في أنفسهم"، وقوله: "ثم لا يجدوا في أنفسهم"، نصب عطفاً على قوله: "حتى يحكموك فيما شجر بينهم".
فيه خمس مسائل:
الأولى - قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت وقال الطبري : قوله " فلا " رد على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله :" وربك لا يؤمنون " وقال غيره : إنما قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي وإظهاراً لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيداً للتهمم بالنفي، وكان يصلح إسقاط لا الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى وكان يصح إسقاط الأولي ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام.
و"شجر" معناه اختلف واختلط ومنه الشجر لاختلاف أغضانه، ويقال لعصي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض قال الشاعر:
نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام
وقال طرفه:
وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأرم الشجر
وقالت طائفة: نزلت في الزبير مع الأنصاري، وكانت الخصومة فيسقي بسان "فقال عليه السلام للزبير :
اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جاركفقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير: اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" ونزل " فلا وربك لا يؤمنون" الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري، فقال بعضهم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر وقال مكي والنحاس: هو حاطب بن أبي بلتعة، وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي: هو حاطب وقيل: ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره والصحيح القول الأول لأنه غير معين ولا مسمى وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي كما قال مجاهد، ثم تتناول بعومها قصة الزبير. قال ابن العربي: وهو الصحيح فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر، ولكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كنت فلته وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب وأما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة الأعراف إن شاء الله تعالى .
الثانية - وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: "اسق يا زبير" لقربه من الماء "ثم أرسل الماء إلى جارك " أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك .
فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك غضب، لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلاً، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال آن كان ابن عمتك بمد همزة أن المفتوحة على جهة الإنكار أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضباً عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له وعليه لا يقال: كيف حكم في حال غصبه وقد قال :
"لا يقضي القاضي وهو غضبان " فإنا نقول: لأنه معصوم من اخطأ في التبليغ والأحكام بدليل العقل الدال على صدقة فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز، فإن اصطلحوا وإلا استوفى فلذي الحق حقه وثبت الحكم.
الثالثة - واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون، وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئاً في حائطه قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل.
الرابعة- روى مالك "عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل " قال أبو عمر : لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق "عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى" وذكر عبد الرزاق "عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل". وغيره من السيول كذلك وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال: لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت قال ابن عمر: في هذا المعنى وإن لم يكمن بهذا اللفظ -حديث ثابت مجتمع على صحته . رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعاً عن ابن شهاب أن عروة الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل فقال الأنصاري: سرح الماء فأبى عليه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث قال ابن عمر ، وقوله في الحديث : "يرسل وفي الحديث الآخر إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى " يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعاً فيما قد جعل الناس فيه شركاء، فقول ابن القاسم أولى على كل حال هذا إذا لم يكن أصله ملكاً للأسفل مختصاً به، فإن ما استحق بعمل أن بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته وبالله التوفيق.
الخامسة -قوله تعالى :" ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت " أي ضيقاً وشكاً ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجه وجمعها حراج وقال الضحاك: أي إثما بإنكارهم ما قضيت " ويسلموا تسليما " أي ينقادوا لأمرك في القضاء وقال الزجاج " تسليما" مصدر مؤكد فإذا قلت: ضربت ضرباً فكأنك قلت لا أشك فيه وكذلك " ويسلموا تسليما" أي ويسلموا لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً.
يقول تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع" أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقوله "بإذن الله" قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني, يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك, كقوله "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه" أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. وقوله "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم" الاية, يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم, فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم, ولهذا قال "لوجدوا الله تواباً رحيماً" وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي, قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله, سمعت الله يقول "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً" وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي, فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم, فقال يا عتبي, الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له .
وقوله "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً, ولهذا قال "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به, وينقادون له في الظاهر والباطن, فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة, كما ورد في الحديث "والذي نفسي بيده, لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به". وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا معمر عن الزهري, عن عروة, قال: خاصم الزبير رجلاً في سريج من الحرة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك, فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "اسق يا زبير, ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر, ثم أرسل الماء إلى جارك" . واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري, وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة, قال الزبير: فما أحسب هذه الاية إلا نزلت في ذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" الاية. هكذا رواه البخاري ههنا, أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر, وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً, وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة, ثلاثتهم عن الزهري, عن عروة, فذكره, وصورته صورة الإرسال, وهو متصل في المعنى, وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال, فقال: حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة, كانا يسقيان بها كلاهما, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: حقه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم, قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الاية نزلت إلا في ذلك " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ", هكذا رواه الإمام أحمد, وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير, فإنه لم يسمع منه, والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله, فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم, رواه كذلك في تفسيره, فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب, أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام, أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل, فقال الأنصاري: سرح الماء يمر, فأبى عليه الزبير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله, أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم, استوعى للزبير حقه في صريح الحكم, فقال الزبير: ما أحسب هذه الاية إلا في ذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة, عن عبد الله بن الزبير, عن الزبير, فذكره, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحداً قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي أبو دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا الفضل بن دكين, حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار, عن سلمة رجل من آل أبي سلمة, قال: خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير, فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته, فنزلت: "فلا وربك لا يؤمنون" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو حيوة, حدثنا سعيد بن عبد العزيز, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب في قوله "فلا وربك لا يؤمنون" قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة, اختصما في ماء, فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل, هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري.
(ذكر سبب آخر غريب جداً) ـ قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود, قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما, فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم", انطلقا إليه, فلما أتيا إليه, فقال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا. فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب, فردنا إليك: فقال: أكذاك ؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليها مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله, وأدبر الاخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, قتل عمر والله صاحبي, ولولا أني أعجزته لقتلني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أظن أن يجترىء عمر على قتل مؤمن" فأنزل الله "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك" الاية, فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله, فكره الله أن يسن ذلك بعد, فأنزل "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" الاية, وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به, وهو أثر غريب مرسل, وابن لهيعة ضعيف والله أعلم.
(طريق أخرى) ـ قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا عتبة بن ضمرة, حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل, فقال المقضي عليه: لا أرضى, فقال صاحبه: فما تريد ؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق, فذهبا إليه, فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقضى لي, فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأبى صاحبه أن يرضى, فقال: نأتي عمر بن الخطاب, فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقضى لي عليه, فأبي أن يرضى, فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك, فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله, فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله, فأنزل "فلا وربك لا يؤمنون" الاية.
قوله 65- "فلا وربك". قال ابن جرير: قوله "فلا" رد على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله "وربك لا يؤمنون" وقيل: إنه قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون كما في قوله: "فلا أقسم بمواقع النجوم". "حتى يحكموك" أي جعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك، وقيل: معناه يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك "فيما شجر بينهم" أي اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر
أي المخلتلف، ومنه تشاجر الرماح: أي اختلافها "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" قيل: هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام: أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا. والحرج: الضيق، وقيل الشك، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج، وقيل الحرج: الإثم، أي لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت "ويسلموا تسليماً" أي: ينقادوا لأمرك وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج: "تسليماً" مصدر مؤكد: أي ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ولا شبهة فيه. والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"، وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة، فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" فضم إلى التحكيم أمراً آخر، هو عدم وجود حرج: أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانئلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله "ويسلموا" أي: يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال: "تسليماً" فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه رد ولا تشويه مخالفة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال: كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله "ألم تر إلى الذين يزعمون" الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: "أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء
يمر، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري. استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى بينهما، فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.
65-قوله تعالى" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك"، الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير: "أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله للزبير: اسق يازبير ، ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير: اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار / على الزبير برأي أراد به سعةً له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم". قال عروة : قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية.
وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال: لمن كان القضاء، فقال الأنصاري: قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون انه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه ، فقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة :"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك".
وقال مجاهد والشعبي: نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .
قوله تعالى "فلا" أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم إستأنف القسم " وربك لا يؤمنون" ويجوز أن يكون" لا" في قوله"فلا" صلة، كما في قوله" فلا أقسم"، حتى يحكموك : أي يجعلوك حكماً،"فيما شجر بينهم"،أي: اختلف واختلط من امورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض،"ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً"، قال مجاهد شكاً ، وقال غيره : ضيقاً،"مما قضيت" قال الضحاك : إثماً ، أي: يأثمون بإنكارهم ما قضيت ، "ويسلموا تسليماً" أي: وينقادوا لأمرك انقياداً.
65"فلا وربك" أي فوربك، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله: "لا يؤمنون" لأنها تزاد أيضاً في الإثبات كقوله تعالى: "لا أقسم بهذا البلد". "حتى يحكموك فيما شجر بينهم" فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه. "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" ضيقاً مما حكمت به، أو من حكمك أو شكاً من أجله، فإن الشك في ضيق من أمره. "ويسلموا تسليماً" وينقادوا إليك انقياداً بظاهرهم وباطنهم.
65. But nay, by thy lord, they will not believe (in truth) until they make thee judge of what is in dispute between them and find within themselves no dislike of that which thou decidest, and submit with full submission.
65 - But no, by the Lord, they can have no (real) faith, until they make thee judge in all disputes between them, and find in their souls no resistance against thy decisions, but accept them with the fullest conviction.