(فجعلناها) أي تلك العقوبة (نكالا) عبرة مانعة من ارتكاب مثل ما عملوا (لما بين يديها وما خلفها) أي الأمم التي في زمانها أو بعدها (وموعظة للمتقين) الله وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بخلاف غيرهم
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل الهاء والألف في قوله: "فجعلناها"، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما: حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "فجعلناها" فجعلنا تلك العقوبة وهي المسخة نكالاً.
فالهاء والألف من قوله: "فجعلناها" على قول ابن عباس هذا كناية عن المسخة، وهي فعلة من مسخهم الله مسخة.
فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، "فجعلناها"، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، "نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ". والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "فجعلناها"، يعني الحيتان.
والهاء والألف على هذا القول من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كنى عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ".
وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ الهاء والألف، في هؤلاء كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا "نكالا لما بين يديها وما خلفها"، فجعلوا الهاء والألف كناية عن القردة.
وقال آخرون: "فجعلناها"، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت نكالاً.
القول في تأويل قوله: "نكالا".
و النكال مصدر من قول القائل: نكل فلان بفلان تنكيلاً ونكالاً وأصل النكال ، العقوبة، كما قال عدي بن زيد العبادي:
لا يسخط الضليل ما يسع العـ ـبد، ولا في نكاله تنكير
وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "نكالا" يقول: عقوبة.
حدثني المثنى قال، حدثني إسحق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "فجعلناها نكالا"، أي عقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: " لما بين يديها وما خلفها".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "لما بين يديها" يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. "وما خلفها"، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "لما بين يديها وما خلفها"، لما خلا لهم من الذنوب، "وما خلفها"، أي عبرة لمن بقي من الناس.
وقال آخرون بما:حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق، عن داودبن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال، قال ابن عباس: "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها"، أي من القرى.
وقال آخرون بما:حدثنا به بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله: "فجعلناها نكالا لما بين يديها" من ذنوب القوم "وما خلفها"، أي للحيتان التي أصابوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لما بين يديها"، من ذنوبها، "وما خلفها" من الحيتان.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: "لما بين يديها"، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "نكالا لما بين يديها وما خلفها" يقول: "بين يديها"، ما مضى من خطاياهم، "وما خلفها " خطاياهم التي هلكوا بها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله إلا أنه قال: "وما خلفها "، خطيئتهم التي هلكوا بها.
وقال آخرون بما:حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها" قال: أما "ما بين يديها" فما سلف من عملهم، "وما خلفها"، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.
وقال آخرون بما:حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها"، يعني الحيتان، " فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها"، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: "ما بين يديها وما خلفها".
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن الهاء والألف في قوله: "فجعلناها نكالا" بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم. وفي إبانته عز ذكره بقوله: " نكالا ": أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم ما يعلم أنه عنى بقوله: "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها"، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها دون غيره من المعاني. وإذ كانت الهاء والألف بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؟ فكذلك العائد في قوله: "لما بين يديها وما خلفها" من الهاء والألف : أن يكون من ذكر الهاء والألف اللتين في قوله: "فجعلناها"، أولى من أن يكون من أذكر، غيره.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل، فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرًا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال في تأويل ذلك: "فجعلناها"، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: "فجعلناها". فإن ظن ظان أن ذلك جائز وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك، وإن كان كذلك، فغير جائز أن ئترك المفهوم من ظاهر الكتاب والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول، ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.
وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى: "وموعظة".
والموعظة، مصدر من قول القائل:وعظت الرجل اعظه وعظاً وموعظة، إذا ذكرته.
فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "وموعظة" يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.
القول في تأويل قوله: " للمتقين ".
وأما المتقون، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وموعظة للمتقين"، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به إلى يوم القيامة، كالذي:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق، عن داود بن الحصين،عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبدالله بن عباس في قوله: "وموعظة للمتقين "، إلى يوم القيامة.
حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وموعظة للمتقين "، أي: بعدهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "موعظة للمتقين "، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وموعظة للمتقين "، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: "وموعظة للمتقين " أي لمن بعدهم.
قوله تعالى : "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين" .
قوله تعالى : "فجعلناها نكالا" نصب على المفعول الثاني . وفي المجعول نكالاً أقاويل ، قيل : العقوبة . وقيل : القرية ، إذ معنى الكلام يقتضيها . وقيل : الأمة التي مسخت . وقيل : الحيتان ، وفيه بعد . والنكال : الزجر والعقاب . والنكل والأنكال : القيود . وسميت القيود أنكالاً لأنها ينكل بها ، أي يمنع . ويقال للجام الثقيل : نكل ونكل ، لأن الدابة تمنع به . ونكل عن الأمر ينكل ، ونكل ينكل إذا امتنع . والتنكيل إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم ، أي تجبنهم . وقال الأزهري : النكال العقوبة . ابن دريد : والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان ، قال :
فارم على أقفائهم بمنكل
قوله : "لما بين يديها" قال ابن عباس والسدي : لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم . "وما خلفها" لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب . قال الفراء : جعلت المسخة نكالاً لما مضى من الذنوب ، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم . قال ابن عطية : وهذا قول جيد ، والضميران للعقوبة . وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس : لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم . واختاره النحاس ، قال : وهو أشبه بالمعنى ، والله أعلم . وعن ابن عباس أيضاً : "لما بين يديها وما خلفها" من القرى . وقال قتادة : "لما بين يديها وما خلفها" من ذنوبهم ، وما خلفها من صيد الحيتان .
وقوله تعالى : "وموعظة للمتقين" عطف على نكال ، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار . والوعظ : التخويف . والعظة الاسم . قال الخليل : الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب . قال الماوردي : وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين . قال ابن عطية : واللفظ يعم كل متق من كل أمة . وقال الزجاج : "وموعظة للمتقين" لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله جل وعز ما نهاهم عنه ، فيصيبهم ما أصاب اصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم .
يقول تعالى: "ولقد علمتم" يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون" القصة بكمالها، وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيله، وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة، وقوله تعالى: "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله "كمثل الحمار يحمل أسفاراً" ورواه ابن جرير عن المثنى، عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به، وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " الاية، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير وقال شيبان النحوي عن قتادة "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساءً وقال عطاء الخراساني: نودوا يا أهل القرية "كونوا قردة خاسئين" فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية، حدثنا محمد بن مسلم، يعني الطائفي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسلوا وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله "كونوا قردة خاسئين" قال: يعني أذلة صاغرين، وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه، وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به، فلما أبو إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره، وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها: مدين، فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السبت، أقبلت إليهم شرعاً إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فلم يروا حوتاً صغيراً ولا كبيراً، حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعاً، حتى إذا ذهب السبت، ذهبن فكانوا كذلك، حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً سراً يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتداً في الساحل فأوثقه ثم تركه، حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت، فانطلق به فأكله، حتى إذا كان يوم السبت الاخر عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل، قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سراً زماناً طويلاً لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون، فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا، "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ قالوا: معذرة إلى ربكم" بسخطنا أعمالهم "ولعلهم يتقون"، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم، قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس شأناً، فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلاً فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد، قال : قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم، قال: وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الاية، وروى الضحاك عن ابن عباس نحواً من هذا، وقال السدي في قوله تعالى "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال: هم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت، وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً، فلم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فيها، فإذا كان يوم الأحد، جاء فأخذه، فجعل الرجل يشوي السمك، فيجد جاره روائحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم، إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، قال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً" يقول: لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعونكم ؟ فقال بعضهم "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" فلما أبوا، قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار وفتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطؤوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " وذلك حين يقول " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " الاية: فهم القردة (قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة، بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنوياً لا صورياً، بل الصحيح أنه معنوي وصوري، والله أعلم. وقوله تعالى: "فجعلناها نكالاً" قال بعضهم: الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم "نكالاً" أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " وقوله تعالى "لما بين يديها وما خلفها" أي من القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى: " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " منه قوله تعالى " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " الاية، على أحد الأقوال، في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى فالمراد لما بين يديها وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي "جعلناها نكالاً لما بين يديها" قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الاية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم ؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية "فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها" أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية. لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها، لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى، جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن (قلت) وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها، من بحضرتها من القرى، يبلغهم خبرها وما حل بها، كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى" الاية، وقال تعالى: "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" الاية، وقال تعالى "أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال "وموعظة للمتقين" وقوله تعالى: "وموعظة للمتقين" قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة، وقال الحسن وقتادة "وموعظة للمتقين" بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السدي وعطية العوفي "وموعظة للمتقين" قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم (قلت) المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم.
واختلف في مرجع الضمير في قوله: 66- "فجعلناها" وفي قوله: "لما بين يديها وما خلفها" فقيل: العقوبة، وقيل: الأمة، وقيل: القرية، وقيل: القردة، وقيل: الحيتان، والأول أظهر. والنكال: الزجر والعقاب، والنكل: القيد لأنه يمنع صاحبه، ويقال: للجام الدابة نكل لأنه يمنعها، والموعظة مأخوذة من الاتعاظ والانزجار، والوعظ: التخويف. وقال الخليل: الوعظ التذكير بالخير. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وكان بنو إسرائيل أسفل منه. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "خذوا ما آتيناكم بقوة" قال: أي جد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "واذكروا ما فيه" قال: اقرأوا ما في التوراة واعملوا به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "لعلكم تتقون" قال: لعلكم تنزعون عما أنتم عليه. وأخرج ابن جرير عنه قال: "ولقد علمتم" أي عرفتم " اعتدوا " يقول: اجترأوا في السبت بصيد السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا، وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: انقطع ذلك النسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفاراً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة أصناف، وذكر نحو ما قدمناه عن المفسري. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "خاسئين" قال: ذليلين. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "خاسئين" قال: صاغرين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "فجعلناها نكالاً لما بين يديها" من القرى "وما خلفها" من القرى "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عنه "فجعلناها" يعني الحيتان "نكالاً لما بين يديها وما خلفها" من الذنوب التي عملوا قبل وبعد. وأخرج ابن جرير عنه "فجعلناها" قال: جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة "نكالاً" عقوبة "لما بين يديها" يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي "وما خلفها" يقول: للذين كانوا معهم: "وموعظة" قال: تذكرة وعبرة للمتقين.
66. " فجعلناها " أي جعلنا عقوبتهم بالمسخ " نكالاً " أي عقوبة وعبرة، والنكال اسم لكل عقوبة ينكل الناظر من فعل ما جعلت العقوبة جزاء عليه، ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع، وأصله من النكل وهو القيد ويكون جمعه: أنكالاً " لما بين يديها " قال قتادة : أراد بما بين يديها يعني ما سبقت من الذنوب، أي جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن أخذ الصيد " وما خلفها " ما حضر من الذنوب التي أخذوا بها، وهي العصيان بأخذ الحيتان، وقال أبو العالية و الربيع : عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم أن يستنوا بسنتهم، و (ما) الثانية بمعنى من، وقيل: (جعلناها) أي جعلنا قرية أصحاب السبت عبرة لما بين يديها أي القرى التي كانت مبنية في الحال " وما خلفها " وما يحدث من القرى من بعد ليتعظوا، وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: فجعلناها وما خلفها، أي ما أعد لهم من العذاب في الآخرة، نكالاً وجزاء لما بين يديها أي لما تقدم من ذنوبهم باعتدائهم في السبت " وموعظة للمتقين ": للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.
66-" فجعلناها " أي المسخة ، أو العقوبة . " نكالاً " عبرة تنكل المعتبر بها ، أي تمنعه . ومنه النكل للقيد . " لما بين يديها وما خلفها " لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين ، واشتهرت قصتهم في الآخرين ، أو لمعاصريهم ومن بعدهم ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها . " وموعظةً للمتقين " من قومهم ، أو لكل متق سمعها .
66. And We made it an example to their own and to succeeding generations, and an admonition to the God fearing.
66 - So we made it an example to their own time and to their posterity, and a lesson to those who fear God.