(و) اذكر (إذ قال موسى لقومه) وقد قتل لهم قتيل لا يُدرى قاتله وسألوه أن يدعوَ الله أن يبينه لهم فدعاه (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) مهزوءاً بنا حيث تجيبنا بمثل ذلك (قال أعوذ) أمتنع (بالله أن أكون من الجاهلين) المستهزئين
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضاً من نكثكم ميثاقي، "إذ قال موسى لقومه " وقومه بنو إسرائيل، إذ ادارأوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا".
و الهزؤ اللعب والسخرية، كما قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسله قالت: أراة معدمًا لا شيء له
يعني بقوله: قد هزئت ، قدسخرت ولعبت.
ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازىء لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.
وحذفت الفاء من قوله: "أتتخذنا هزوا"، وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحسن السكوت على قوله: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، فجاز لذلك إسقاط الفاء من قوله: "أتتخذنا هزوا"، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى "قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا" (الحجر: 57، 58/ الذاريات: 31، 32) ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل فقالوا، كان حسناً أيضاً جائزاً. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه الفاء. وذلك أنك إذا قلت: قمت ففعلت كذا وكذا، لم تقل: قمت فعلت كذا وكذا، لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.
فأخبرهم موسى إذ قالوا ما قالوا أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "، يعني: من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.
وكان سبب قيل موسى لهم: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، ما:
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمربن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر قال: فقتله وليه، ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله. فقال: اذبحوا بقرة. فقالوا: أتتخذنا هزوًا، قال: " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "، قالوا دع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة، إلى قوله: "فذبحوها وما كادوا يفعلون " قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبًا، قال: ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبوجعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قول الله: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة". قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأتي إلي أمرعظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة". فعجبوا وقالوا: "أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "، "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض " يعني: لا هرمة "ولا بكر" يعني: ولا صغيرة "عوان بين ذلك " أي: نصف، بين البكر والهرمة " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" أي: صاف لونها " تسر الناظرين " أي: تعجب الناظرين" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول" أي: لم يذللها العمل "تثير الأرض" يعني ليست بذلول فتثير الأرض "ولا تسقي الحرث" يقول: ولا تعمل في الحرث "مسلمة" يعني مسلمة من العيوب " لا شية فيها" يقول: لا بياض فيها "قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ". قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون ، لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان. فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه فقتله الله على أسوأ عمله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلاً، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي: واعماه! فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: "وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ". فقال لهم موسى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة". قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم فقالوا: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر: التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا، والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها "فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " قال: تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون* قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها" من بياض ولا سواد ولا حمرة "قالوا الآن جئت بالحق ". فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجل من بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلاً مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فأخذه بثمانين ألفا! فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مئة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدًا. وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرًا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمناً. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبًا فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مجاهد
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل، قال حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد
وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا إسمعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يذكر
وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد وحجاج عن أبي معشر، عن محمدبن كعب القرظي، ومحمدبن قيس
وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطأوا حياته. إلا أنهم جميعاً مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه عن أمر الله إياهم بذلك فقالوا له: وما ذبح البقرة؟
يبن لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادعي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل،فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزىء بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: "أتتخذنا هزوا". قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزىء بنا؟ فقال موسى: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم عليه، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين". قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، وتقولون: "أتتخذنا هزوا".
قوله تعالى : "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فيه اربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "إن الله يأمركم" حكي عن ابي عمرو أنه قرأ : يأمركم بالسكون ، وحذف الضمة من الراء لثقلها . قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب ، وإنما الصحيح عن ابي عمرو أنه كان يختلس الحركة . "أن تذبحوا" في موضع نصب بـ " يأمركم" ، أي بأن تذبحوا . "بقرة" نصب بـ تذبحوا . وقد تقدم معنى الذبح ، فلا معنى لإعادته .
الثانية : قوله تعالى : "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" مقدم في التلاوة ، وقوله : "قتلتم نفسا" مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة . ويجوز أن يكون قوله : قتلتم في النزول مقدما ، والأمر بالذبح مؤخراً . ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويكون "وإذ قتلتم" مقدماً في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا ، لأن الواو لا توجب الترتيب . ونظيره في التنزيل في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله : "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين" إلى قوله : "إلا قليل" . فذكر إهلاك من هلك منها ثم عطف عليه بقوله : "وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها" . فذكر الركوب متأخر في الخطاب ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك . وكذلك قوله تعالى : "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا" . وتقديره : أنزل على عبد الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، ومثله في القرآن كثير .
الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخير في البقر . وقيل :الذبح أولى ، لأنه الذي ذكره الله ، ولقرب المنحر من المذبح . قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً حرم أكل ما نحر مما يذبح ، أو ذبح مما ينحر . وكره مالك ذلك . وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه . وسيأتي في سورة المائدة أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى : "إلا ما ذكيتم" مستوفى إن شاء الله تعالى . قال الماوردي : وإنما أمروا ـ والله أعلم ، بذبح بقرة دون غيرها ، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته . وهذا المعنى علة في ذبح البقرة ، وليس بعلة في جواب السائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .
الرابعة : قوله تعالى : "بقرة" البقرة اسم للأنثى ، والثور اسم للذكر ، مثل ناقة وجمل ، وامرأة ورجل . وقيل : البقرة واحد البقر ، الأنثى والذكر سواء . وأصله من قولك : بقر بطنه ، أي شقه ، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره . ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه . والبقيرة : ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين . وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد فبقر الأرض . قال شمر : بقر نظر موضع الماء ، فرأى الماء تحت الأرض . قال الأزهري : البقر اسم للجنس وجمعه باقر . ابن عرفة : يقال بقير وباقر وبيقور . وقرأ عكرمة وابن يعمر إن الباقر . والثور : واحد الثيران . والثور : السيد من الرجال . والثور القطعة من الأقط . والثور : الطحلب . وثور : جبل . وثور : قبيلة من العرب . وفي الحديث :
ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق يعني انتشاره ، يقال : ثار يثور ثوراً وثوراناً إذا انتشر في الأفق . وفي الحديث :
من أراد العلم فليثور القرآن . قال شمر : تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به .
قوله تعالى : "قالوا أتتخذنا هزوا" هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم : "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" وذلك أنهم وجدوا قتيلاً بين أظهرهم ـ قيل : اسمه عاميل ـ واشتبه أمر قاتله عليهم ، ووقع بينهم خلاف ، فقالوا : نقتتل ورسول الله بين أظهرنا ، فأتوه وسألوه البيان ـ وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله ـ فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهرة جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده ، قالوا : اتتخذنا هزؤا ؟ والهزء : اللعب والسخرية ، وقد تقدم . وقرأ الجحدري أيتخذنا بالياء ، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه بقوله : "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل ، فاستعاذ منه عليه السلام ، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء . والجهل نقيض العلم . فاستعاذ من الجهل ، كما جهلوا في قولهم : أتتخذنا هزؤاً ، لمن يخبرهم عن الله تعالى ، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله . ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته ، وقال : إن الله يأمرك بكذا ـ : اتتخذنا هزوؤاً ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره . وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلط الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين :
إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد . وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل ، وأنه مفسد للدين .
قوله تعالى :"هزوا" مفعول ثان ، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة . وجعلها حفص واواً مفتوحة ، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل ، كقوله : "السفهاء ولكن" ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد ، فتقول : هزؤاً ، كما قرأ أهل الكوفة ، وكذلك "ولم يكن له كفوا أحد" . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر : أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل ، نحو العسر واليسر والهزء . ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب ، ورسل ورسل ، وعون وعون . وأما قوله تعالى : "وجعلوا له من عباده جزءا" فليس مثل هزء وكفء ، لأنه على فعل من الأصل . على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
مسألة : في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد . وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده . قال ابن خويز منداد : وقد بلغنا أن رجلاً تقدم إلى عبيد الله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال : جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش ؟ فقال له : لا تجهل أيها القاضي ! فقال له عبيد الله : وأين وجدت المزاح جهلاً ! فتلا عليه هذه الآية فأعرض عنه عبيد الله ، لأنه رآه جاهلاً لا يعرف المزح من الاستهزاء ، وليس أحدهما من الآخر بسبيل .
يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.
ذكر بسط القصة
قال: ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا، فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها، فضربوه ببعضها، فقام: فقالوا: من قتلك ؟ فقال: هذا ـ لابن أخيه، ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً، فلم يورث قاتل بعد، ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر هو الرازي، عن هشام بن حسان به، وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب، وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم القاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه السلام فقال له: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله، قال: فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه، فأوحى الله: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فعجبوا من ذلك، فقالوا: "أتتخذنا هزواً ؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض" يعني لا هرمة "ولا بكر" يعني ولا صغيرة "عوان بين ذلك" أي نصف بين البكر والهرمة "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" أي صاف لونها "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول" أي لم يذللها العمل "تثير الأرض ولا تسقي الحرث" يعني وليست بذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث "مسلمة" يعني مسلمة من العيوب "لا شية فيها" يقول: لا بياض فيها " قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون " قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: إنا إن شاء الله لمهتدون، لما هدوا إليها أبداً، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان، فأخذ قاتله، وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام، فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله، وقال محمد بن جرير : حدثني محمد بن سعيد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته فقالوا ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين، قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه، غرمت الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم، عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه السلام، فلما أتوه، قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا، وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه السلام، فقال: قل لهم: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فتضربوه ببعضها، وقال السدي: "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي ولاخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولاكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلاً فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدوا إلي ديته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى: "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون" فقال لهم موسى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا "قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا وتعنتوا على موسى، فشدد الله عليهم، فقالوا: "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" والفارض: الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلا ولداً واحداً، والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها "فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" قال: نقي لونها "تسر الناظرين" قال: تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها" من بياض ولا سواد ولا حمرة " قالوا الآن جئت بالحق " فطلبوها فلم يقدروا عليها، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلاً مر به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً ؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستقيظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفاً، قال الاخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً، وزاد الاخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبداً، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشراً، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمناً، فقال له موسى: أعطهم بقرتك، فقال يا رسول الله، أنا أحق بمالي، فقال: صدقت، وقال للقوم: ارضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهباً، فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها، قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك ؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه، وقال سنيد: حدثنا حجاج هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ـ دخل حديث بعضهم في حديث بعض ـ، قالوا: إن سبطاً من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحداً منهم خارجاً إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئاً فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا، قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه، قال: فأشرف رئيس المدينة فنظر، فلم ير شيئاً ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب، وكان موسى لما رأى القتل كثيراً في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى، فذكروا له شأنهم، قالوا: يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب، قال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
قيل: إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى: "وإذ قتلتم نفساً" ويجوز أن يكون قوله: قتلتم مقدماً في النزول، ويكون الأمر بالذبح مؤخراً، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أو الواو تقتضي الترتيب، وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام، والبقرة اسم للأنثى، ويقال: للذكر ثور، وقيل: إنها تطلق عليهما، وأصله من البقر وهو الشق لأنها تشق للأرض بالحرث، قال الأزهري: البقر اسم جنس، وجمعه باقر: وقد قرأ عكرمة ويحيى بن يعمر " إن البقر تشابه علينا " وقوله: 67- "هزواً" الهزو هنا: اللعب والسخرية، وقد تقدم تفسيره. وإنما يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل.
67. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " البقرة هي الأنثى من البقر يقال: هي مأخوذة من البقر وهو الشق، سميت به لأنها تشق الأرض للحراثة.
والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا، واشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه، فأمرهم الله بذبح بقرة فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " قالوا أتتخذنا هزواً " أي: تستهزئ بنا، نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة!! وإنما قالوا ذلك لبعد بين الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه، قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل، وبترك الهمزة حفص " قال " موسى " أعوذ بالله " أمتنع بالله " أن أكون من الجاهلين " أي من المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل، فلما علم (القوم) أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل استوصفوها، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له (ابن) طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى تكبر، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عواناً، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن وكان باراً بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه، ويأكل بثلثه، ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوماً: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم واسماعيل واسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أنها شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال: أعزم بإله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب أن تأتي إلي فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت: أيها الفتى البار بوالدتك اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني اسرائيل لوركبتني ما كنت تقدر علي أبداً، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بر بوالدته، وكان الله به خبيراً فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضى والدتي فقال الملك: لمك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضى أمي فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمك فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على أن أستأمرها فقال الملك: فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرهاا، فأبى الفتى، فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت إن الذي يأتيك ملك بصورة آدمي ليختبرك فإذا آتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ (ففعل) فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير، فأمسكوها، وقدر الله تعالى على بني اسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة، مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه ورحمة ( فذلك ):
67-" وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً " أول هذه القصة قوله تعالى : " وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها " وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم ، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال . وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعاً في ميراثه ، وطرحوه على باب المدينة ، ثم جاءوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله . " قالوا أتتخذنا هزواً " أي مكان هزؤ ، أو أهله ومهزوءاً بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعاداً لما قاله واستخفافاً به ، وقرأ حمزة و إسماعيل عن نافع السكون ، حفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واواً . " قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " لأن الهزؤ في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان ، وأخرج ذلك في صورة الاستعادة استفظاعاً له .
67. And when Moses said unto his people: Lo! Allah commandeth you that ye sacrifice a cow, they said: Dost thou make game of us? He answered: Allah forbid that I should be among the foolish!
67 - And remember Moses said to his people: God commands that ye sacrifice thou a laughing stock of us? he said: God save me from being an ignorant (fool)!