68 - (وأوحى ربك إلى النحل) وحي إلهام (أن) مفسرة أو مصدرية (اتخذي من الجبال بيوتا) تأوين إليها (ومن الشجر) بيوتا (ومما يعرشون) أي الناس يبنون لك من الأماكن وإلا لم تأو إليها
يقول تعالى ذكره : وألهم ربك يا محمد النحل إيحاءً إليها "أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون" يعني : مما يبنون من السقوف ، فرفعوها بالبناء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا مروان ، عن إسحاق التميمي ،وهو ابن أبي الصباح ، عن رجل ، عن مجاهد : "وأوحى ربك إلى النحل" قال : ألهمها إلهاماً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : بلغني ، في قوله "وأوحى ربك إلى النحل" قال : قذف في أنفسها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ، قوله "وأوحى ربك إلى النحل" قال : قذف في أنفسها أن اتخذي من الجبال بيوتاً .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ،قال :حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "وأوحى ربك إلى النحل" ... إلى الآية ، قال : أمرها أن تأكل من الثمرات ، وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللاً .
وقد بينا معنى الإيحاء ، واختلاف المختلفين فيه فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وكذلك معنى قوله "يعرشون" .
وكان ابن زيد يقول في معنى يعرشون ، ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله "يعرشون" قال : الكرم .
فيه ثلاث مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " قد مضى القول في الوحي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: " ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها " ( الشمس: 7 - 8). ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال: " تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها " ( الزلزلة: 4 - 5). قال إبراهيم النخعي الحربي : لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك، أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحي هنا بمعنى الإلهام. وقرأ يحيى بن وثاب ( إلى النحل) بفتح الحاء. وسمي نحلاً لأن الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه، قاله الزجاج. الجوهري : والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الذبان كلها في النار يجعلها عذاباً لأهل النار إلا النحل " ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وروي عن ابن عباس قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد" خرجه أبو داود أيضاً، وسيأتي في ( النمل) إن شاء الله تعالى.
الثانية - قوله تعالى: " أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر " هذا إذا لم يكن لها مالك. " ومما يعرشون " جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش ( بكسر الراء وضمها) وقريء بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم.
الثالثة - قال ابن العربي : ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.
المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية, والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها, ومن الشجر ومما يعرشون, ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل, ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات, وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها, أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم, والبراري الشاسعة, والأودية والجبال الشاهقة, ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة, بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل, فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها, وتبيض الفراخ من دبرها, ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "فاسلكي سبل ربك ذللاً" أي مطيعة, فجعلاه حالاً من السالكة, قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: "وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون" قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم, والقول الأول هو الأظهر, وهو أنه حال من الطريق, أي فاسلكيها مذللة لك, نص عليه مجاهد, وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح. وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمر الذباب أربعون يوماً, والذباب كله في النار إلا النحل".
وقوله تعالى: "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس" ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله: "فيه شفاء للناس" أي في العسل شفاء للناس, أي من أدواء تعرض لهم, قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه الشفاء للناس, لكان دواء لكل داء, ولكن قال فيه شفاء للناس, أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة, فإنه حار والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد وابن جرير في قوله: "فيه شفاء للناس" يعني القرآن, وهذا قول صحيح في نفسه, ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الاية, فإن الاية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا, وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" وقوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين" والدليل على أن المراد بقوله تعالى: "فيه شفاء للناس" هو العسل, الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه, فقال "اسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً, ثم جاء فقال: يارسول الله سقيته عسلاً, فما زاده إلا استطلاقا, قال: "اذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً, ثم جاء فقال: يارسول الله, ما زاده إلا استطلاقا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك, اذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً فبرىء. قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات, فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت, فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً, فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه, ثم سقاه فازداد التحليل والدفع, ثم سقاه فكذلك, فلما اندفعت الفضلات الفاسده المضرة بالبدن, استمسك بطنه, وصلح مزاجه, واندفعت الأسقام والالام ببركة إشارته, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل, هذا لفظ البخاري: وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية بنار, وأنهى أمتي عن الكي".
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة, سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم, أو يكون في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة محجم, أو شربة عسل, أو لذعة بنار توافق الداء, وما أحب أن أكتوي" ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية تصيب ألماً, وأنا أكره الكي ولا أحبه" ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري, عن عبد الله بن الوليد به, ولفظه "إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم" وذكره, وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي, حدثنا زيد بن حباب, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا, وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة, وليغسلها بماء السماء, وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها, فليشتر به عسلاً فليشربه بذلك فإنه شفاء: أي من وجوه, وقال الله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" وقال: " ونزلنا من السماء ماء مباركا " وقال: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً" وقال في العسل: "فيه شفاء للناس".
وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي, حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله "من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر, لم يصبه عظيم من البلاء" الزبير بن سعيد متروك. وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي, حدثنا عمرو بن بكير السكسكي, حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي بن أم حرام وكان قد صلى القبلتين, يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بالسنا والسنوت, فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام" قيل: يارسول الله وما السام ؟ قال "الموت" قال عمرو: قال ابن أبي عبلة: السنوت الشبت. وقال آخرون: بل هو العسل الذي في زقاق السمن, وهو قول الشاعر:
هم السمن بالسنوت لا لبس فيهم وهم يمنعون الجار أن يقردا
كذا رواه ابن ماجه, وقوله: لا لبس فيهم أي لا خلط. وقوله: يمنعون الجار أن يقردا, أي يضطهد ويظلم, وقوله: " إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار, ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء, لاية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها, فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.
68- "وأوحى ربك إلى النحل" قد تقدم الكلام في الوحي وأنه يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه في القلب ابتداءً من غير سبب ظاهر، ومنه قوله سبحانه: " ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها " ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها، وقرأ يحيى بن وثاب "إلى النحل" بفتح الحاء. قال الزجاج: وسمي نحلاً لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى "أن اتخذي من الجبال بيوتاً" أي بأن اتخذي على أن "أن" هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في الإيحاء معنى القول، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم، أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعاً، وأهل الحجاز يؤنثون النحل ومن في من الجبال بيوتاً "و" كذا في "من الشجر و" كذا في "مما يعرشون" للتبعيض: أي مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة. وقرأ الباقون بالكسر. وقرئ أيضاً بيوتاً بكسر الباء وضمها.
68 - " وأوحى ربك إلى النحل " ، أي : ألهمها وقذف في أنفسها ، ففهمته ، والنحل : زنابير العسل ، واحدتها نحلة .
" أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون " ، يبنون ، وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن ، فهي تأوي إليها ، قال ابن زيد : هي الكروم
68."وأوحى ربك إلى النحل"ألهمها وقذف في قلوبها، وقرئ "إلى النحل" بفتحتين ."أن اتخذي " بأن اتخذي ويجوز أن تكون"أن"مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول، وتأنيث الضمير على المعنى فإن النحل مذكر ."من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون"ذكر بحرف التبعيض لأنها لا تبني في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من كرم أو سقف، ولا في كل مكان منها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببناء الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وحصة القسمة التي لا يقوى عليها أحذق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة ،ولعل ذكره لتنبيه على ذلك وقرئ "بيوتاً" بكسر الباء ، وقرا ابن عامر وأبو بكر "يعرشون"بضم الراء .
68. And thy Lord inspired the bee, saying: Choose thou habitations in the hills and in the trees and in that which they thatch;
68 - And thy Lord taught the Bee to build its cells in hills, on trees, and in (men's) habitations;