7 - وقلنا (إن أحسنتم) بالطاعة (أحسنتم لأنفسكم) لأن ثوابه لها (وإن أسأتم) بالفساد (فلها) إساءتكم (فإذا جاء وعد) المرة (الآخرة) بعثناهم (ليسوؤوا وجوهكم) يحزنوكم بالقتل والسبي حزنا يظهر في وجوهكم (وليدخلوا المسجد) بيت المقدس فيخربوه (كما دخلوه) وخربوه (أول مرة وليتبروا) يهلكوا (ما علوا) غلبوا عليه (تتبيرا) هلاكا وقد أفسدوا ثانيا بقتل يحيى فبعث عليهم بختنصر فقتل منهم الوفا وسبى ذريتهم وخرب بيت المقدس
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة : "إن أحسنتم" يا بني إسرائيل ، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم ، ولزمتم أمره ونهيه " أحسنتم " وفعلتم ما فعلتم من ذلك " لأنفسكم " لأنكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءاً، وينمي لكم أموالكم ويزيدكم إلى قوتكم قوة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه "وإن أسأتم" يقول : وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذ، فإلى أنفسكم تسيئون ، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم ، فيسلط عليكم في الدنيا عدوكم ، ويمكن منكم من بغاكم سوءا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين . ،وقال جل ثناؤه "وإن أسأتم فلها" والمعنى : فإليها كما قال "بأن ربك أوحى لها" والمعنى : أوحى إليها .
وقوله "فإذا جاء وعد الآخرة" يقول : فإذا جاء وعد المرة الأخرة من مرتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض "ليسوءوا وجوهكم" يقول : ليسوء مجي مجيء ذلك الوعد للمرة الاخرة وجوهكم فيقبحها .
وقد اختلف القراء في قراءة قوله "ليسوءوا وجوهكم" فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة "ليسوءوا وجوهكم" بمعنى : ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم ، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله "وليدخلوا المسجد" وقالوا : ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله "ليسوءوا" . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ليسؤ وجوهكم ، على التوحيد وبالياء، وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل ، أحدهما ما قد ذكرت ، والآخر منهما : ليسوء الله وجوهكم ، فمن وجه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهكم ، جعل جواب قوله فإذا محذوفا، قد استغني بما ظهر عنه ، وذلك المحذوف جاء ، فيكون الكلام تأويله : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجه تأويله إلى : ليسوء الله وجوهكم ، كان أيضا في الكلام محذوف ، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه غير أن ذلك المحدوف سوى جاء ، فيكون معنى الكلام حينئذ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم ، فيكون المضمر بعثناهم ، وذلك جواب إذا حينئذ . وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين لنسؤ وجوهكم على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه .
وكان مجييء وعد المرة الآخرة عند قتلهم يحيى.
ذكر الرواية بذلك ، والخبر عما جاءهم من عند الله حينئذ :
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل ، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم ، فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب ، فلما جاء وعلى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد في جانب البيت فضمه ، ثم أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر لنا بها طعاما وشرابا ، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك ، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك ، ثم قال له : إني أحب أن تكتب لي أمانأ إن أنت ملكت يوما من الدهر، فقال : أتسخر بي ؟ فقال : إني لا أسخر بك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا، فكلمته أمه ، فقالت : وما عليك إن كان ذلك وإلا لم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا، فقال له : أرأيت إن جفت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، فاجعل لي آية تعرفني بها قال : ترفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه . ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ، ويدني مجلسه ،، ويستشيره في أمره ، ولا يقطع أمرا دونه ، وأنه هوي أن يتزوج ابنة امرأة له ، فسال يحيى عن ذلك ، فنهاه عن نكاحها وقال : لست أرضاها لك ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، فعمدت أم الجارية حين جلس الملك على شرابه ، فالبستها ثيابا رقاقا حمرا، وطيبتها وألبستها من الحلف ، وقيل : إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود، وبم رسلتها !لى الملك ، وأمرتها أن تسقيه ، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها ذلك سألته أن ياتي برأس يحيى بن زكريا في طست ، ففعلت ، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها، فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت : لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك ، فقال : ما الذي تساليني ؟ قالت : أسالك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا، فاوتى برأسه في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا، فقالت له : ما أريد أن أسالك إلا هذا . قال : فلما ألحت عليه بعث إليه ، فاتي برأسه ، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول : لا يحل لك ذلك ، فلما أصبح إذا دمه يغلي ، فامر بتراب فألقي عليه ، فرقي الدم فوق التراب يغلي ، فألقي عليه التراب أيضا، فارتفع الدم فوقه ، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين ، فثار في الناس ، وأراد أن يبعث عليهم جيشا، ويؤمر عليهم رجلا، فأتاه بختنصر وكلمه وقال : إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف ، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها، فابعثني ، فبعثه فسار بختنصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم ، فلم يطقهم ، فلما اشتد عليهم المقام وجاع أصحابه ، أرادوا الرجوع ، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت : أين أمير الجند، فاتي بها إليه ، فقالت له : إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال : نعم ، قد طال مقامي ، وجاع أصحابي ، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني ، فقالت : أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك ، وتقتل من أمرتك بقتله ، وتكف إذا أمرتك أن تكف ؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا، ثم ارفعوا بايديكم إلى السماء فنادوا إنا نستفتحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا، فإنها سوف تساقط ، ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له : اقتل على هذا الدم حتى يسكن ، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفا وامرأة، فلما سكن الدم قالت له : كف يدك ، فإن الله تبارك وتعالى إذا قتل نبي لم يرض ، حتى يقتل من قتله ، ومن رضي قتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته ، فكف عنه وعن أهل بيته ، وخرب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وقال : من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرا ئيل قتلوايحيى ، فلما خربه بختنصرذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأ شرا فهم وذهب بدا نيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، هؤلاءكلهم من أولاد الأنبياءوذهب معه برأس جالوت ، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قدمات ، فملك مكانه ، وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه ، فحسدهم المجوس على ذلك ، فوشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ، ولا ياكلون من ذبيحتك ، فدعاهم فسألهم ، فقالوا : أجل إن لنا رباً نعبده ، ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بخد فخد لهم ، فألقوا فيه وهم ستة، وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم ، فقال : انطلقوا فلنأكل ولنشرب ، فذهبوا فاكلوا وشربوا ، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم ، ولم يخدش منهم أحدا، ولم ينكاه شيئا، ووجدوا معهم رجلا، فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا : ما بال هذا السابع إنما كانوا ستة، فخرج إليهم السابع ، وكان ملكا من الملائكة، فلطمه لطمة فصار في الوحش ، فكان فيهم سبع سنين ، لا يراه وحشي إلا أتاه حتى ينكحه ، يقتص منه ما كان يصنع بالرجال ، ثم إنه رجع ورد الله عليه ملكه ، فكانوا أكرم خلق الله عليه . ثم إن المجوس وشوا به ثانية، فألقوا أسدا في بئر قد ضري ، فكانوا يلقون إليه الصخرة فيأخذها، فألقوا إليه دانيال ، فقام الأسد في جانب ، وقام دانيال في جانب لا يمسه ، فأخرجوه ، وقد كان قبل ذلك خد لهم خدا، فأوقد فيه فارا، حتى إذا أججها قذفهم فيها، فأطفاها الله عليهم ولم ينلهم منها شيء . ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك في منامه صنما رأسه من ذهب وعنقه من شبه ، ومحدره من حديد، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير، ورجلاه من نحاس ، فبينا هو قائم ينظر، إذ جاءت صخرة من السماء من قبل القبلة، فكسرت الصنم فجعلته هشيما، فاستيقظ فزعا وأنسيها، فدعا السحرة والكهنة، فسالهم ، فقال : أخبروني عما رأيت ، فقالوا له لا، بل أنت أخبرنم ا ما رأيت فنعبره لك ، قال : لا أدري ، قالوا له : فهؤلاء الفتية الذين تكرمهم ، فادعهم فاسألهم ، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فما تصنع بهم ؟ قال : أقتلهم ، فارسل إلى دانيال وأصحابه ، فدعاهم ، فقال لهم : أخبروني ماذا رأيت ! فقال له دانيال : بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك ، قال : لا أدري قد نسيتهأ، فقال له دانيال : كيف نعلم رؤيا ئم تخبرنا بها؟ فأمر البواب أن يقتلهم ، فقال دانيال للبواب : إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه ، فأخرنا ثلاثة أيام ، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلا فاضرب أعناقنا ، فأجلهم فدعوا الله ، فلما كان اليوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر على حدة، فأتوا البواب فأخبروه ، فدخل على الملك فأخبره ، فقال : أدخلهم علي ، وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا، إلا شيئا يذكرونه ، فقالوا له . أنت رأيت كذا وكذا، فقصوها عليه ، فقال : صدقتم ، قالوا : نحن نعبرها لك ؟ أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب ، فإنه ملك حسن مثل الذهب ، وكان قد ملك الأرض كلها، وأما إلعنق من الشبه ، فهو ملك ابنك بعد، يملك فيكون ملكه حسنا، ولا يكون مثل الذهب ، وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس ، يملكون بعدك ابنك ، فيكون ملكهم شديدا مثل الحديد، وأما بطنه الأخلاط ، فإنه يذهب ملك أهل فارس ، ويتنازع الناس الملك في كل قرية، حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين ، والشهر والشهرين ، ثم يقتل ، فلا يكون للناس قوام على ذلك ، كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخار، فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله تعالى نبتا من أرض العرب ، فأظهره على بقية ملك أهل فارس ، وبقية ملك ابنك وملكك ، فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء ، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم . فعطف عليهم بختنصر فأحبهم ، ثم إن المجوس وشوا بدانيال ، فقالوا : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عارا ، فجعل لهم بختنصر طعاما، فأكلوا وشربوا ، وقال للبواب : انظر أول من يخرج عليك يبول ، فاضربه بالطبرزين ، وإن قال أنا بختصر، فقل كذبت ، بختنصر أمرني ، فحبس الله عن دانيال البول ، وكان أول من قام من القوم يريد البول بختنصر، فقام مدلأ، وكان ذلك ليلا، يسحب ثيابه ، فلما راه البواب شد عليه ، فقال : أن بختنصر، فقال : كذبت ، بختنصر أمرني أن أقتل أول من يخرج ، فضربه فقتله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، قال : فرد الله لهم الكرة عليهم كما قال ، قا ل: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عز وجل " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا" دخلوه فتبروه وخربوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر، فقال الله " عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا" : فرحمهم فرد إليهم ملكهم وخلص من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل ، وقال لهم : إن عدتم عدنا. فقال أبو المعلى : ولا أعلم ذلك ، إلا من هذا الحديث ، ولم يعدهم الرجعة إلى ملكهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم" قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا، وأمر عليهم بختنصر، فأتوا بني إسرائيل ، فدمروهم ، فكانت هذه الآخرة ووعدها .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما ضرب لبختنصر الملك بجرانه ، قال : ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فليمش الى خشبته ، فغزا الشام ، فذلك حين قتل وأخرج بيت المقدس ، ونزع حليته ، فجعلها آنية ليشرب فيها الخمور، وخوانا ياكل عليه الخنازير، وحمل التوراة معه ، ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم به مئة وصيف منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل ، فقال لإنسان : أصلح لي أجسام هؤلاء لعلي أختار منهج أربعة يخدمونني ، فقال دانيال لأصحابه : إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم ، لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمر، فقالوا للذي يصلح أجسامهم : هل لك أن تطعمنا طعاما، هو أهون عليك في المؤنة مما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك ، قال : ماذا؟ قال : خبز الشعير والكراث ، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم ، فاخذهم بختنصر يخدمونه ، فبينما هم كذلك ، إذ رأى بختنصر رؤيا فجلس فنسيها، فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرآها، فخرج إلى الحجرة، فنسيها، فلما أصبح دعا العلماء والكهان ، فقال : أخبروني بما رأيت البارحة، وأولوا لي رؤياي ، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته ، موعدكم ثالثة . فقالو! : هذا لو أخبرنا برؤياه ، وذكر كلاما لم أحفظه ، قال : وجعل دانيال كلما مر به أحد من قرابته يقول : لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه ، ولأولتها له ، قال : فجعلوا يقولون : ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مر به كهل ، فقال له ذلك ، فرجع إليه فأخبره ، فدعاه فقال : ماذا رأيت ؟ قال : رأيت تمثالا، قال إيه ، قال ورأسه من ذهب ، قال إيه ، قال : وعنقه من فضة، قال إيه ، قال : وصدره من حديد، قال إيه ، قال : وبطنه من صفر، قال إيه ، قال : ورجلاه من انك ، قال إيه ، قال : وقدماه من فخار، قال : هذا الذي رأيت ؟ قال إيه ، قال : فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ، ثم في عنقه ، ثم في صدره ، ثم في بطنه ، ثم في رجليه ، ثم في قدميه ، قال : فأهلكته قال : فما هذا؟ قال : أما الذهب فإنه ملكك ، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ، ثم ملك ابن ابنك ، قال : وأما الفخار فملك النساء. فكساه جبة ترثون ، وسوره وطاف به في القرية، وأجاز خاتمه ، فلما رأت ذلك فارس ، قالوا : ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي ، فقالوا : ائتوه من نحو الفتية الثلاثة، ولا تذكروا له دانيال ، فإنه لا يصدقكم عليه ، فأتوه ، فقالوا : إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك ، واية ذلك أنك إن قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم ياكلوا ولم يشربوا، فامر بحطب كثير فوضع ، ثم أرقاهم عليه ، ثم أوقد فيه نارا، ثم خرج من آخر الليل يبول ، فإذا هم يتحدثون ، لاذا معهم رابع يروح عليهم يصلي ، قال : من هذا يا دانيال ؟ قال : هذا جبريل ، إنك ظلمتهم ، قال : ظلمتهم مر بهم ينزلوا، فامر بهم فنزلوا، قال : ومسخ الله تعالى بختنصرمن الدواب كلها، فجعل من كل صنف من الدواب رأسه رأس سبع : من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه فرأى كفاً خرجت بين لوحين ، ثم كتبت سطرين ، فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علما، فقالت له أمه : إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك ، وكان قد جفاه فدعاه فقال : إني معيد إليك منزلتك من أبي ، فأخبرنى ما هذان السطران ؟ قال : أما أن تعيد إلي منزلتي من أبيك ، فلا حاجة لي بها، وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة . فأخرج من في القصر أجمعين ، وأمر بقفله ، فأقفلت الأبواب عليه ، يرأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيف ، فقال : من جاءك من خلق الله فاقتله ، وإن قال أنا فلان . وبعث الله عليه البطن فجعل يمشي حتى كان شطر الليل ، فرقد ورقد صاحبه ، ثم نبهه البطن ، فذهب يمشي والآخر نائم ، فرجع فاستيقظ به ، فقال له : أنا فلان ، فضربه بالسيف فقتله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة" آخر العقوبتين " ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة" كما دخله عدوهم قبل ذلك " وليتبروا ما علوا تتبيرا" فبعث الله عليهم في الاخرة بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال " فإذا جاء وعد الآخرة" من المرتين " ليسوءوا وجوهكم " قال : ليقبحوا وجوهكم "وليتبروا ما علوا تتبيرا" قال : يدمروا ما علوا تدميرا ، قال : هو بختنصر، بعثه الله عليهم في المرة الآخرة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة بختنصر، فخرب المساجد وتبرما علوا تتبيرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال ، فيما بلغني : استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك ، يعني بعد قتلهم شعياء،رجلا منهم يقال له : ناشة بن اموص ، فبعث الله الخضر نبيا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغني يقول : إنما سمي الخضر خضرا ، لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنها وهي تهتز خضراء قال : واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل ؟ أرميا بن حلفيا ، وكان من سبط هارون بن عمران .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، و محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، قالا: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثنا عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، وحدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول : قال الله تبارك وتعالى لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك ،ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ، ولأمر عظيم اختبأتك . فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدده ويرشده ، وياتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله ، قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم ، ونسوا ما كان الله تعالى صنع بهم ، وما. نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده . فاوحى الله تعالى إلى إرمياء : أن ائت قومك من بنى إسرائيل ، واقصص عليهم ما أمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم ، وعرفهم أحداثهم ، فقال إرمياء : إني ضعيف إن لم تقوني ، وعاجز إن لم تبلغني ومخطىء إن لم تسددني ، ومخذول إن لم تنصرني ، وذليل إن لم تعزني ، قال الله تبارك وتعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي ، أقلبها كيف شئت ، فتطيعني ؟ وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنا كلمت البحار، ففهمت قولي ، وأمرتها فعقلت أمري ، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدى حدي ، تأتي بامواج كالجبال ، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لأمري أني معك ، ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي ، لتبلغهم رسالاتي ولتستحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصرعنها فلك مثل وزرمن تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، انطلق إلى قومك فقل : إن الله ذكر لكم صلاح آبائكم ، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبة طاعتي ، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي ، وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي ، أو عصاني فسعد بمعصيتي ، فإن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهلكة . أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا ليعبدوهم دوني وتحكموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري ، وغروهم مني . أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، ونبذوا كتابي ، ونسوا عهدي ، وغيروا سنتي ، فاذان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي ، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة علي وغرة وفرية علي وعلى رسلي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني ، وعظم شأني ، فهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ، وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني . وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري ، لطلب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير العلم ، ويتعلمون فيها لغير العمل . وأما أولاد الأنبياء ، فمكثرون مقهورون مغيرون ، يخوضون مع الخائضين ، ويتمنون علي مثل نصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر، ولا يذكرون كيف كان صبرآبائهم لي ، وكيف كان جدهم في أمري حين غير المغيرون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم ، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري ، وظهر ديني ، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون ، فاطولت لهم ، وصفحت عنهم ، لعلهم يرجعون ، فاكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون ، فاعذرت ، في كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض ، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو فلا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني ، فحتى متى هذا؟ أبي يتمرسون أم إياي يخادعون ؟ لاني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ، ويضل فيها رأي ذي الرأي ، وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطن عليهم جبارأ قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة ، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان ، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم ، له عساكر مثل قطع السحاب ، ومراكب أمثال العجاج ، كأن خفق راياته طيران النسور، وأن حملة فرسانه كوبر العقبان . ثم أوحى الله إلى إرميا : إني مهلك بني إسرائيل بيافث . ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح . ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه وقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه ، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني اخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك ، فلما سمع الله تضرع الخضر وبكاءه ، وكيف يقول ، ناداه : يا إرميا أشق ذلك عليك فيما أوحيت لك ؟ قال : نعم يارب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به ، فقال الله : وعزتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته . ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم ، وإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه ، وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجه في ربه ، أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل ، فخرج في ست مئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال : يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس ، حتى يكون منك الأمر في ذلك ؟ فقال إرميا للملك : إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق ، فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله ملكاً من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاستفته ، وأمره بالذي يستفتي فيه ، فأقبل الملك إلى إرمياء ، وكان قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال له الملك : يا نبي الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسناً، ولم آلهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطاً لي ، فافتني فيهم يا نبي الله ، فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله أن تصل ، وأبشر بخير. وانصرف عنه ، فمكث أياماً ، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا: من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي ، فقال له نبي الله : أو ما ظهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحب ؟ فقال : يا نبي الله ، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبي : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه ، فقام الملك من عنده ، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس ، ومعه خلائق من قومه كأمثال الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعاً شديداً ، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبي الله أين ما وعدك الله ؟ فقال : إني بربي واثق ، ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين ، فقال له النبي : أولم يأن لهم أن يمتنعوا من الذي هم فيه مقيمون عليه ؟ فقال له الملك يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أن مأربهم في ذلك سخطي ، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عز وجل ، فقال له نبي الله على أي عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتد عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم ، فقال إرميا : يا مالك السموات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم ، فما خرجت الكلمة من في إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان ، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا ملك السموات والأرض بيدك ملكوت كل شيء وأنت أرحم الراحمين ، أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي إرميا : إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا، فاستيقن النبي صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات ، وأنه رسول ربه ، ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش ، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطىء الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ، ثم انصرف راجعاً إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي ، فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمها فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل ، وأصاب كل رجل منهم أربعة أغلمة ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل ، وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب ، وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب ، ومن بقي من بني إسرائيل ، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق ، فثلثاً أقر بالشام ، وثلثاً سبى ، وثلثا قتل ، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل ، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم ، فلما ولى بختنصر عنهم راجعاً إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل أرميا على حمار له معه عصير. ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام ، ثم بعثه ، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال ، وهلاك بختنصر ، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام ، وعمارة بيت المقدس ، وأمر عزير وكيف رد الله عليه التوراة .
حدثنا ابن حميد ، قال ؟ ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : ثم عمدت بنوإسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ، يعني بعد مهلك عزير، ويعود الله عليهم ، ويبعث فيهم الرسل ، ففريقاً يكذبون ، وفريقاً يقتلون ، حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، وكانوا من بيت ال داود .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عمربن عبد الله بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير أنه قال ، وهو يحدث عن قتل يحيى بن زكريا قال : ما قتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل ، وكان فيهم ملك ، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك ، فهمت ابنة ذلك الملك بابيها، فقالت : لو أني تزوجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء، فقالت له : يا أبت تزوجني ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت : من لي بيحيى بن زكريا ضيق علي ، وحال بيني وبين أن أتزوج بأبي ، فأغلب على ملكه ودنياه دون النساء، قال : فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت : ادخلوا عليه فالعبوا، حتى إذا فرغتم فإنه سيحكمكم ، فقولوا دم يحيى بن زكريا ولا تقبلوا غيره . وكان اسم الملك رواد، واسم ابنته البغي، وكان الملك فيهم إذا حدث فكذب ، أو وعد فأخلف خلع فاستبدلى به غيره ، فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم ، قال : سلوني أعطكم ، فقالوا له : نسالك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه ، قال : ويحكم سلوني غير هذا، فقالوا : لا نسالك شيئا غيره ، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يستحل بذلك خلعه ، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي ، فذبحوه في طست ثم حزوا رأسه ، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطست معه ، قال : فطلع برأسه جمله حتى وقف به على الملك ورأسه يقول فى يدى الذي يحمله لا يحل لك ذلك ، فقال رجل من بني إسرائيل : أيها الملك لو أنك وهبت لي هذا الدم ! فقال وما تصنع به ؟ قال : أطهر منه الأرض ، فإنه كان قد ضيقها علينا، فقال : أعطوه هذا الدم ، فأخذه فجعله ،في قلة، ثم عمد به إلى بيت في المذبح ، فوضع القلة فيه ، ثم أغلق عليه ، ففار في القلة حتى خرج منها من تحت الباب من البيت الذي هو فيه ، فلما رأى الرجل ذلك ، فظع به ، فأخرجه فجعله في فلاة من الأرض ، فجعل يفور،وعظمت فيهم الأحداث .
ومنهم من يقول : أقر مكانه في القربان ولم يحول
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيئ بن زكريا وبعض الناس يقول : وقتلوا زكريا- ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس ، فسار إليه باهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رءوس جنده يدعى نبور زاذان صاحب القتل ، فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلا أن لا أجد أحداً أقتله ، فأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان ، فدخل بيت المقدس ، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دماً يغلي ، فسألهم فقال : يا بني إسرائيل ، ما شأن هذا الدم الذي يغلي. ؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يتقبل منا فلذلك هويغلي كما تراه ، ولقد قربنا منذ ثمان مئة سنة القربان فتقبل منا إلا هذا القربان ، قال : ما صدقتموتي الخبر، قالوا له : لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي ، فلذلك لم يتقبل منا، فذبح منهم نبور زاذان على ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحاً من رءوسهم ، فلم يهدأ، فأمر بسبع مئة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة الاف من شيعهم وأزواجهم ، فذبحهم على الدم فلم يبرد ولم يهدأ، فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : ويلكم يا بني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم في الأرض ، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته ، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر، فقالوا له : إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم ، فلم نصدقه ، فقتلناه ، فهذا دمه ، فقال لهم نبور زاذان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا، فقال : الآن صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، فلما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : غلقوا الأبواب ، أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس وخلا.
في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك ، وما قتل منهم من أجل ، فاهدأ بإذن الله قبل أن لاأبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال : آمنت بما امنت به بنو إسرائيل ، وصدقت وأيقنت أنه لا رب غيره ، ولو كان معه اخر لم يصلح ، ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض ، ولو كان له ولد لم يصلح ، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ، ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرضين وما فيهن وما بينهما، وهو على كل شيء قدير، فله الحلم والعلم والعزة والجبروت ، وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول ، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه . فاوحى الله إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور صدوق والحبور بالعبرانية : حديث الإيمان . اوإن نبور زاذان قال لبني إسرائيل يا بني إسرائيل ، إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، لاني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل ، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك ، فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم ، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره ، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم ، فقد بلغتني دماؤهم ، وقد انتقمت منهم بما فعلوا . ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل ، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل ، يقول الله عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا* فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا *ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " وعسى من الله حق فكانت الوقعة الأولى : بختنصر وجنوده ، ثم رد الله لكم الكرة عليهم ، وكانط الوقعة الآخرة خردوس وجنوده ، وهي كانت أعظم الوقعتين ، فيها كان خراب بلادهم ، وقتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، يقول الله تبارك وتعالى " وليتبروا ما علوا تتبيرا" ثم عاد الله عليهم ، فاكثر عددهم ، ونشرهم في بلادهم ، ثم بدلوا وأحدثوا الأحداث ، واستبدلوا بكتابهم غيره ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم وضيعوا الحدود .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن أبي عتاب رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره ، ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن ، وفقه في الدين ، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانياً أربعين سنة، ثم عمر في الإسلام أربعين سنة-قال : كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيا بعثه الله إليهم ، فقال لهم : يا بني إسرائيل إن الله يقول لكم : إني قد سلبت أصواتكم ، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم فهموا به ليقتلوه ، فقال الله تبارك وتعالى له : ائتهم واضرب لي ولهم مثلا ، فقل لهم : إن الله تبارك وتعالى يقول لكم : اقضوا بيني وبين كرمي ، ألم أختر له البلاد، وطيبت له المدرة، وحظرته بالسياج ، وعرشته السويق والشوك والسياج والعوسج ، وأحطته بردائي ، ومنعته من العالم وفضلته ، فلقيني بالشوك والجذوع ، وكل شجرة لاتؤكل ؟ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيبت المدرة، ولا حظرته بالسياج ، ولا عرشته السويق ، ولا حطته بردائي ولا منعته من العالم ، فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي ، ثم استقبلتموني بكل ما أكره من معصيتي وخلاف أمري لمه إن الحمار ليعرف مذوده ، لمه إن البقرة لتعرف سيدها، وقد حلفت بعزتي العزيزة، وبذراعي الشديد لآخذن ردائي ، ولأمرجن الحائط ، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم . قال : فوثبوا على نبيهم فقتلوه فضرب الله عليهم الذل ، ونزع منهم الملك ، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذل وصغار وجزية يؤدونها، والملك في غيرهم من الناس ، فلن يزالوا كذلك أبدا ، ما كانوا على ما هم عليه . قال : قال : فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله"فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " قال : كانت الاخرة أشد من الأولى بكثير، قال : لأن الأولى كانت هزيمة فقط ، والاخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراة حتى لم يبق منها حرف واحد، وخرب ا المسجد .
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا، في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس ، قال : فكان فيما نهاهم عنه ، نكاح ابنة الأخ ، قال : وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك ، فقولي : حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا، فلما دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال : سلي غير هذا، فقالت : ما أسألك إلا هذا، قال : فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم ، فجاءته عجوز من بني إسرائيل ، فدلته على ذلك الدم ، قال : فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل سبعين ألفا منهم من سن واحد فسكن . وقوله " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة" يقول : وليدخل عدوكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخلوه أول مرة حين أفسدتم الفساد الأول في الأرض . وأما قوله " وليتبروا ما علوا تتبيرا" فإنه يقول : وليدمروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا ، يقال منه : دمرت البلد : إذا خربته وأهلكت أهله ، وتبر تبراً وتباراً، وتبرته أتبره تتبيراً . ومنه قول الله تعالى ذكره " ولا تزد الظالمين إلا تبارا " يعني : هلاكا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " وليتبروا ما علوا تتبيرا" قال : تدميرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " وليتبروا ما علوا تتبيرا " قال : يدمروا ما علوا تدميرا .
قوله تعالى : " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " أي نفع إحسانكم عائد عليكم
" وإن أسأتم فلها " أي فعليها ، نحو سلام لك ، أي سلام عليك . قال :
فخر صريعا لليدين و للفم
أي على اليدين و على الفم . و قال الطبري : اللام بمعنى إلى ، يعني و إن أسأتم فأليها ، أي فإليها ترجع الإساءة ، لقوله تعالى : بأن ربك أوحى لها الزلزلة : أي إليها . و قيل : فلها الجزاء و العقاب . و قال الحسين بن الفضل : فلها رب يغفر الإساءة . ثم يحتمل أن يكون هذا خطابا لبني إسرائيل في أول الأمر ، أي أسأتم فحل بكم القتل و السبي و التخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك و العلو و انتظام الحال . و يحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله . أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه فإذا جاء وعد الأخرة من إفسادكم ، ة ذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام ، قتله ملك من بني إسرائيل يقال له لاخت ، قاله القتبي . و قال الطبري : اسمه هردوس ، ذكره في التاريخ ، حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل . و قال السدي : كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى ين ركريا و يستشيره في الأمر ، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها و قال : إنها لا تحل لك ، فحقدت أمها على يحيى عليه السلام ، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا و طيبتها و أرسلتها إلى الملك و هو على شرابه ، و أمرتها أن تتعرض له ، و إن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله ، فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب ، ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا و الرأس تتكلم حتى وضع بين يديه و هو يقول : لا تحل لك ، و تتحل لك ، فلما أصبح إذا دمه يغلي ، فألقى عليه التراب فغلى فوقه ، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة و هو في ذلك يغلي ، ذكره الثعلبي و غيره . و ذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن على قال : كان ملك من هذه الملوك مات و ترك امرأته و ابنته فورث ملكه أخوه فأراد أن يتزوج امرأة أخيه ، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك ، و كانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء ، فقال له : لا تتزوجها فإنها بغي ، فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها و صرفه عنها ، فقالت : من أين هذا ! حتى بلغها أنه من قبل يحيى ، فقالت : ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه ، فعمدت إلى ابنتها و صنعتها ، ثم قالت : اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك و يجلسك في حجره ، و يقول سليني ما شئت ، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك ، فإذا قال لك ذلك فقولي : لا أسأل إلا رأس يحيى . قال : و كانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يمض له نزع من ملكه ، ففعلت ذلك . قال : فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى ، و جعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه ، فاختار ملكه فقتله . قال : فساخت بأمها الأرض . قال ابن جدعان : فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا ؟ قلت لا ، قال : إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم و اتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه و بقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح ، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها ، و نظروا بتلك الهدبه فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها .
قلت : وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ابعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس ، قال : كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ ، قال : وكان لملكهم ابنة أخ تعجبهم ... وذكر الخبر بمعناه وعن ابن عباس قال : بعث يحيى بن زكريا في اثني من الحواريين يعلمون الناس ، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت ، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه ، وكان يريد أن يتزوجها ، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها ، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها : إذا دخلت على الملك فقال : ألك حاجة فقولي : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا ، فقال : سليني سوى هذا ! قالت: ما أسألك إلا هذا . فلما أبت عليه دعا بطست فدعا به فذبحه ، فندرت قطره من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم ، فقتل عليه منهم سبعين ألفا ، في رواية خمسة وسبعين ألفا . قال سعيد بن المسيب : هي دية كل نبي . وعن ابن عباس قال : أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم
اني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وإن قاتل بإبن إبنتك سبعين ألفا ، و عن سمير بن عطية قال : قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا وعن زيد بن واقد قال : رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب مما يلي الشرق ، فكانت البشرة والشعر على حالة لم يتغير . وعن قرة بن خالد قال : ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي وحمرتها بكاؤها . وعن سفيان بن عيينة قال : أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن : يوم ولد فيخرج إلى دارهم ، وليلة يبيب مع الموتى فيجاور جيرانا لم يرى مثلهم ، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم يرى مثله ، قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا . كله من التاريخ المذكور واختلف فيما كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة ، فقيل : بختنصر . وقاله القشيري أبو النصر ، لم يذكر غيره . قال السهيلي : وهذا لا يصح ، لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل ، وقبل الإسكندر ، وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة ، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا ، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا ، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها . وقال الثعلبي : ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والأخبار بأنهم يجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء . قالوا : ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة ، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الاسكندر على بيت المقدس ثمانية وثمانين سنة ، ثم من بعد مملكة الاسكندر إلى مولد يحيى ثلثمائة وثلاثا وستين سنة . قلت : ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله . قال الثعلبي : والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن اسحاق لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى وبعض الناس يقول : لما قتلوا زكريا بعث الله اليهم ملكا من ملوك بابل يقال له : خردوس ، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشؤم ، ثم قال لرئيس جنوده : كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لآقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي ، فسألهم فقالوا : دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة . قال : ما صدقتموني ، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ ، فأتى بسبعمائة علام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وازواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد ، فقال : يا بني إسرائيل ، اصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته ,. فلما رأوا الجهد قالوا : إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه ، فهذا دمه ، كان اسمه يحيى بن زكريا ، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية . فقال : الآن صدقتموني ، وخر ساجدا ثم قال : لمثل هذا ينتقم منكم ، وأمر بغلق الأبواب وقال : أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس ، وخلا في بني إسرائيل وقال : يا نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله قبل ألا ابقي منهم أحدا . فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل ورفع عنهم القتل وقال : رب إني آمنت بما آمن به بنوا إسرائيل وصدقت به ، فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء : إن هذا الرئيس مؤمن صدوق . ثم قال إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لا أعصيه ، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر فأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ، ثم انصرف عنهم إلى بابل ، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل .
قلت : قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة ، وقد كتبناه في كتاب التذكرة مقطعا في أبواب في أخبار المهدي ، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان ، قال حذيفة : قلت يا رسول الله ، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد : وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر له الله الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن ، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد ، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف . قال حذيفة : فقلت يا رسول الله ، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة ، وهو قوله : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا . فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها علىسبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل ، فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام ، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل ، وأن يستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل ، فسار اليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من بيت المقدس وردها الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل ، وهو قوله : عسى ريكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا . فلما رجعت بني إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر ، وهو قوله : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا . فغزاهم في البر والبحر فسباهم و قتلهم وأخذ أموالهم ونساؤهم ، وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجله حتى أودعه في كنيسة الذهب ، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي فيرده إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسي بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين ... و ذكر الحديث .
قوله تعالى : فإذا جاء وعد الآخرة أي من المرتين ، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم ، دل عليه بعثنا الأول ليسوؤوا وجوهكم أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم ، فـ ليسوؤا متعلق بالمحذوف ، أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم . قيل : المراد بالوجوه السادة ، أي ليذلوهم . وقرأ الكسائي لنسوء بنون وفتح الهمزة ، فعل مخبر عن نفسه معظم ، اعتبارا بقوله : وقضينا ، وبعثنا ورددنا . ونحوه عن علي . وتصديقها قراءة أبي لنسوءن بالنون وحرف التوكيد وقرأ أبو بكر والأعمش وأبن وثاب وحمزة وإبن عامر ليسوء بالياء على التوحيد وفتح الهمزة ، ولها وجهان أحدهما ليسوء الله وجوهكم . والثاني ليسوء الوعد وجوهكم وقرأ الباقون ليسوءوا بالياء وضم الهمزة على الجمع ، أي ليسوء العباد الذين هم أولوا بأس شديد وجوهكم . وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا . أي ليدمروا ويهلكوا . وقال قطرب : يهدموا ، قال الشاعر :
فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
" ما علوا " أي غلبوا عليه من بلادكم " تتبيرا " .
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب, أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين, ويعلون علواً كبيراً, أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس, كقوله تعالى: "وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين" أي تقدمنا إليه, وأخبرناه بذلك, وأعلمناه به. وقوله "فإذا جاء وعد أولاهما" أي أولى الإفسادتين "بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" أي سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد¹ أي قوة وعدة وسلطنة شديدة, فجاسوا خلال الديار, أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم, أي بينها ووسطها, وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً وكان وعداً مفعولاً. وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده, سلط عليهم أولاً ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت, ولهذا قال "ثم رددنا لكم الكرة عليهم" الاية, وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضاً وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد, وأنه كان فقيراً مقعداً ضعيفاً يستعطي الناس ويستطعمهم, ثم آل به الحال إلى ما آل, وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقاً كثيراً من بني إسرائيل, وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطولاً, وهو حديث موضوع لا محالة, لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث, والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته, وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذورب, وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها, لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم, ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً, ونحن في غنية عنها, ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله, ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبره الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا, سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم, وسلك خلال بيوتهم, وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقاً, وما ربك بظلام للعبيد, فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام, فخرب بيت المقدس وقتلهم, ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبار فسألهم, ما هذا الدم ؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا, وكلما ظهر عليه الكبار ظهر, قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم, فسكن, وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب , وهذا هو المشهور, وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة, وأخذ منهم خلقاً كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم, وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها, ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته, والله أعلم. ثم قال تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها" أي فعليها, كما قال تعالى: "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها". وقوله: " فإذا جاء وعد الآخرة " أي الكرة الاخرة, أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم "ليسوءوا وجوهكم" أي يهينوكم ويقهروكم, "وليدخلوا المسجد" أي بيت المقدس "كما دخلوه أول مرة" أي في التي جاسوا فيها خلال الديار, "وليتبروا" أي يدمروا ويخربوا "ما علوا" أي ما ظهروا عليه "تتبيراً * عسى ربكم أن يرحمكم" أي فيصرفهم عنكم, "وإن عدتم عدنا" أي متى عدتم إلى الإفساد "عدنا" إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الاخرة من العذاب والنكال, ولهذا قال: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً" أي مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس : حصيراً أي سجناً. وقال مجاهد : يحصرون فيها, وكذا قال غيره, وقال الحسن : فرشاً ومهاداً. وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل, فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
7- "إن أحسنتم": أي أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم "أحسنتم لأنفسكم" لأن ثواب ذلك عائد إليكم "وإن أسأتم" أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم "فلها" أي فعليها. ومثله قول الشاعر:
فخر صريعاً لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم. قال ابن جرير: اللام بعنى إلى: أي فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى: "بأن ربك أوحى لها" أي إليها. وقيل المعنى: فلها الجزاء أو العقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. وهذا الخطاب قيل هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ومعناه: إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك وقيل هو خطاب لمشركي قريش "فإذا جاء وعد الآخرة" أي حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة، والمرة الآخرة هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل واسمه فيه يوحنا، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة. وقال ابن جرير: هيردوس، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم لدلالة جواب إذا الأولى عليه، " ليسوءوا وجوهكم " متعلق بهذا الجواب المحذوف: أي ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة وتتبين في وجوهكم الكآبة، وقيل المراد بالوجوه السادة منهم. وقرأ الكسائي لنسوء بالنون على أن الضمير لله سبحانه. وقرأ أبي لنسوءن بنون التأكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر "ليسوء" بالتحتية والإفراد. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرئه، والضمير لله أو الوعد "وليدخلوا المسجد" معطوف على ليسؤوا "كما دخلوه أول مرة وليتبروا" أي يدمروا ويهلكوا، وقال قطرب: يهدموا، ومنه قول الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
وقرأ الباقون بالتحتية وضم الهمزة وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا "ما علوا" أي ما غلبوا عليه من بلادكم أو مدة علوهم "تتبيراً" أي تدميراً، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقاً للخبر.
7 - " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " ، أي : لها ثوابها ، " وإن أسأتم فلها " ، أي : فعليها ، كقوله تعالى : " فسلام لك " ( الواقعة - 91 ) أي : عليك . وقيل : فلها الجزاء والعقاب .
" فإذا جاء وعد الآخرة " أي : المرة الآخرة من إفسادكم ، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط الله عليهم الفرس والروم ، خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ، فذلك قوله تعالى: " ليسوءوا وجوهكم " ، أي : تحزن وجوهكم ، وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن
قرأ الكسائي [ و يعقوب ] . " بسوء " بالنون وفتح الهمزة على التعظيم ، كقوله : " وقضينا " و " بعثنا " وقرأ ابن عامر و حمزة بالياء [ وفتح ] الهمزة [ على التوحيد ] ، أي : ليسوء الله وجوهكم ، وقيل : ليسوء الوعد وجوهكم .
وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع ، أي ليسوء العباد أولو البأس الشديد وجوهكم .
" وليدخلوا المسجد " ، يعني : بيت المقدس ونواحيه ، " كما دخلوه أول مرة وليتبروا " ، وليهلكوا ، " ما علوا " أي : ما غلبوا عليه من بلادكم " تتبيراً " .
7."إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم"لأن ثوابه لها ."وإن أسأتم فلها"فإن وباله عليها، وإنما ذكرها باللازم ازدواجا . "فإذا جاء وعد الآخرة "وعد عقوبة المرة الآخرة ."ليسوءوا وجوهكم"أي بعثناهم "ليسوءوا وجوهكم"أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها، فحذف لدلالة ذكره أولا عليه. وقرأأبن عامر وحمزة ليسوء على التوحيد ، والضمير فيه للوعد أو للبعث أو لله ويعضده قراءة الكسائيبالنون . وقرئ لنسوأن بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة ، والنسوأن بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله: "وليدخلوا المسجد"متعلق بمحذوف هو بعثناهم . "كما دخلوه أول مرة وليتبروا"ليهكلوا."ما علوا"ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم . "تتبيراً"ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز ،و قيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا :دم قربان لم يقبل منا فقال:ما صدقوني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم،ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً ،فقالوا: إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم،ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك،فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحداً منهم فهدأ
7. (Saying): If ye do good, ye do good for your own souls, and if ye do evil, it is for them (in like manner). So, when the time for the second (of the judgments) came (We roused against you others of Our slaves) to ravage you, and to enter the Temple even as they entered it the first time, and to lay waste all that they conquered with an utter wasting.
7 - If ye did well, ye did well for yourself; if ye did evil, (ye did it) against yourself. so when the second of the warnings came to pass, (we permitted your enemies) to disfigure your faces, and to enter your temple as they had entered it before, and to visit with destruction all that fell into their power.