(ذلك) أي كونهم مع من ذكر مبتدأ خبره (الفضل من الله) تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعاتهم (وكفى بالله عليما) بثواب الآخرة ، أي فثقوا بما أخبركم به {ولا ينبئك مثل خبير}
وأما قوله: "ذلك الفضل من الله"، فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، "الفضل من الله"، يقول: ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم، لا باستيجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم.
فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟
قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم، فهداهم به لطاعته، فكل ذلك ففعل منه تعالى ذكره.
وقوله: "وكفى بالله عليما"، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم، "عليما" بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه، حتى يجازي جميعهم، جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيئين منهم بالإساءة، ويعفو عمن يشاء من أهل التوحيد.
الثالثة - قوله تعالى :" ذلك الفضل من الله " أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه، خلافاً لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله فملا امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله ، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم والله أعلم
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه, لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر, وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان, فكيف كان يكون, ولهذا قال تعالى: "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" الاية, قال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثني إسحاق, حدثنا أبو زهير عن إسماعيل, عن أبي إسحاق السبيعي, قال: لما نزلت "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" الاية, قال رجل: لو أمرنا لفعلنا, والحمد لله الذي عافانا, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي", ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير, حدثنا روح, حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش, قال: لما نزلت "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" الاية, قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي". وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود, فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا, فقال ثابت: والله لو كتب علينا "أن اقتلوا أنفسكم" لفعلنا، فأنزل الله هذه الاية. ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي, حدثنا محمود بن غيلان, حدثنا بشر بن السري, حدثنا مصعب بن ثابت عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير قال: لما نزلت "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم" وحدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان, حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو, عن شريح بن عبيد, قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم" الاية, أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه بيده إلى عبد الله بن رواحة, فقال: "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني ابن رواحة, ولهذا قال تعالى: "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به" أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه "لكان خيراً لهم" أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي "وأشد تثبيتاً", قال السدي: أي وأشد تصديقاً " وإذا لآتيناهم من لدنا " أي من عندنا "أجراً عظيماً" يعني الجنة "ولهديناهم صراطاً مستقيماً" أي في الدنيا والاخرة, ثم قال تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً". أي من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون, ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم تعالى فقال: "وحسن أولئك رفيقاً" وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب, حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه, عن عروة, عن عائشة, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والاخرة" وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" فعلمت أنه خير, وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم به. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الاخر "اللهم الرفيق الأعلى" ثلاثاً ثم قضى, عليه أفضل الصلاة والتسليم.
(ذكر سبب نزول هذه الاية الكريمة)
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان ما لي أراك محزوناً ؟" فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه, فقال: ما هو ؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك, فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فأتاه جبريل بهذه الاية "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين" الاية, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره. وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق, وعن عكرمة, وعامر الشعبي وقتادة, وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سنداً, قال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله: "ومن يطع الله والرسول" الاية, وقال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه, وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضاً. فأنزل الله في ذلك, يعني هذه الاية, فقال: يعني رسول الله "إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم, فيجتمعون في رياض فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه, وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به, فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه", وقد روي مرفوعاً من وجه آخر, فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم, حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد, حدثنا عبد الله بن عمران, حدثنا فضيل بن عياض عن منصور, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة, قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إنك لأحب إلي من نفسي, وأحب إلي من أهلي, وأحب إلي من ولدي, وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي وموتك, عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين, وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك, فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً". وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في صفة الجنة من طريق الطبراني عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال, عن عبد الله بن عمران العابدي به, ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً, والله أعلم. وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي, حدثنا أبو بكر بن ثابت ابن عباس المصري, حدثنا خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب, عن عامر الشعبي, عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي, وأحب أن أكون معك في الدرجة, فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فأنزل الله عز وجل هذه الاية. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن عطاء, عن الشعبي مرسلاً, وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته, فقال لي "سل", فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة, فقال: "أو غير ذلك ؟" قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, أخبرنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر, عن عيسى بن طلحة, عن عمرو بن مرة الجهني, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, شهدت أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, وصليت الخمس, وأديت زكاة مالي. وصمت شهر رمضان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة وهكذا ـ ونصب أصبعيه ـ ما لم يعق والديه" تفرد به أحمد. قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم, حدثنا ابن لهيعة عن زبان بن فائد, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين, وحسن أولئك رفيقاً إن شاء الله" وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري, عن أبي حمزة, عن الحسن البصري, عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري, وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم, فقال: "المرء مع من أحب", قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما, وأرجو أن الله يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم, قال الإمام مالك بن أنس, عن صفوان بن سليم, عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم, كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق المشرق أوالمغرب, لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, قال "بلى, والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين", أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك واللفظ لمسلم, ورواه الإمام أحمد, حدثنا فزارة, أخبرني فليح عن هلال يعني ابن علي, عن عطاء, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون ـ أو ترون ـ الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات". قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون ؟ قال: "بلى, والذي نفسي بيده, رجال آمنوا با لله وصدقوا المرسلين" قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا محمد بن عمار الموصلي, حدثنا عفيف بن سالم عن أيوب, عن عتبة, عن عطاء عن ابن عمر, قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل واستفهم" فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة, ثم قال: أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به, إني لكائن معك في الجنة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم, والذي نفسي بيده, إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله, كان له بها عهد عند الله, ومن قال: سبحان الله وبحمده, كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله, فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته" ونزلت هذه الايات " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " إلى قوله " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " فقال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فاستبكى حتى فاضت نفسه, قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه, فيه غرابة ونكارة وسنده ضعيف, ولهذا قال تعالى: "ذلك الفضل من الله" أي من عند الله برحمته وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم "وكفى بالله عليماً" أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
70- "ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً".
70-"ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً"أي: بثواب الآخرة ، وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبه ، وفيه بيان انهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم ، وإنهم نالوها بفضل الله عز وجل.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن منيب أنا على بن عبيد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله،قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
70"ذلك" مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم. "الفضل" صفته. "من الله" خبره أو الفضل خبره ومن الله حال والعامل فيه معنى الإشارة. "وكفى بالله عليماً" بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.
70. Such is the bounty of Allah, and Allah sufficeth as knower.
70 - Such is the bounty from God: and sufficient is it that God knoweth all.