73 - (والذين إذا ذكروا) وعظوا (بآيات ربهم) القرآن (لم يخروا) يسقطوا (عليها صما وعميانا) بل خروا سامعين ناظرين منتفعين
يقول تعالى ذكره : والذين إذا ذكرهم مذكر بحجج الله ، لم يكونوا صما لا يسمعون ، وعميا لا يبصرونها . ولكنهم يقاظ القلوب ، فهماء العقول ، يفهمون عن الله ما يذكرهم به ، ، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه ، فيوعون مواعظه آذانا سمعته ، وقلوبا وعته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذكل :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " لم يخروا عليها صما وعميانا " فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يفقهون حقا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " قال : لا يفقهون ، ولا يسمعون ، ولا يبصرون .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : قلت للشعبي : رأيت قوما قد سجدوا ، ولم أعلم ما سجدوا منه ، أسجد ، قال : " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " قال : هذا مثل ضربه الله لهم ، لم يدعوها إلى غيرها ، وقرأ قول الله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الأنفال : 2 .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : " لم يخروا عليها صما وعميانا " أو يخر الكافرون صما وعميانا إذا ذكروا بىيات الله ، فينفي عن هؤلاء ما هو صفة للكفار ؟ قيل : نعم ، الكافر إذا تليت عليه آيات الله خر عليها أصم وأعمى ، وخره عليها كذلك ، إقامته على الكفر ، وذلك نظير قول العرب : سببت فلانا ، فقام يبكي ، بمعنى فظل يبكي ، ولا قيام هنالك ، ولعله أن يكون بكى قاعدا ، وكما يقال : نهيت فلانا عن كذا ، فقعد يشتمني ، ومعنى ذلك : فجعل يشتمني ، وظل يشتمني ، ولا قعود هنالك ، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب ، حتى قد فهموا معناه . وذكر الفراء أنه سمع العرب تقول : قعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني وأقبل يشتمني ، قال : وأنشد بعض بني عامر :
لا يقنع الجارية الخضاب ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب ويقعد الأير له لعاب
بمعنى : يصير ، فكذلك قوله : " لم يخروا عليها صما وعميانا " إنما معناه : لم يصموا عنها ، ولا عموا عنها ، ولم يصيروا على باب ربهم صما وعميانا ، كما قال الراجز :
ويقعد الهن له لعاب .
بمعنى : ويصير .
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم " أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع . وقال : " لم يخروا " وليس ثم خرور ، كما يقال : قعد يبكي وإن كان غير قاعد ، قاله الطبري واختاره ، قال ابن عطية : وهو أ، يخروا صماً وعمياناً هي صفة الكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم ، وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام ، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة . قال ابن عطية : فكأن المستمع للذر قائم القناة قويم الأمر ، فإذا أعرض وضل كان ذلك خروراً ، وهو السقوط على غير نظام وترتيب ، وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجداً لكن أصله على غير ترتيب . وقيل : أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجداً وبكياً ، ولم يخروا عليها صماً وعمياناً . وقال الفراء أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا .
الثانية : قال بعضهم : إن من سمع رجلاً يقرأ سجدة يسجد معه ، لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه . قال ابن العربي : وهذا لا يلزمن إلا القارئ وحده ، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحد ، وهو أن لارجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس فليسجد معه ، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه . وقد مضى هذا في ( الأعراف ) .
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام, وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل, وقال محمد بن الحنفية : هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس , هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه, كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" وقيل المراد بقوله تعالى: "لا يشهدون الزور" أي شهادة الزور, وهي الكذب متعمداً على غيره, كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً, قلنا: بلى يا رسول الله. قال :الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً, فجلس فقال :ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " . والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه, ولهذا قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" أي لا يحضرون الزور, وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء, ولهذا قال "مروا كراماً".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج , حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم , أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضاً, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً" وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي , حدثنا حبان , أخبرنا عبد الله , أخبرنا محمد بن مسلم , أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً". ثم تلا إبراهيم بن ميسرة "وإذا مروا باللغو مروا كراماً".
وقوله تعالى: "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً" وهذه أيضاً من صفات المؤمنين "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون" بخلاف الكافر, فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله, كما قال تعالى: "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم" فقوله "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه, فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد قوله "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة : قوله تعالى "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً" يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه, فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم , حدثنا عبد الله بن حمران , حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً ولم يسمع ما سجدوا, أيسجد معهم ؟ قال: فتلا هذه الاية: يعني أنه لا يسجد معهم, لأنه لم يتدبر أمر السجود, ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين.
وقوله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والاخرة. قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً, ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الاية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله, لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعا لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله "هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر بن بشر , حدثنا عبد الله بن المبارك , أخبرنا صفوان بن عمرو , حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً, فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت, فاستغضب المقداد , فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً, ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه, أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية, ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق بين الوالد وولده, إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار, فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار, وأنها التي قال الله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه.
وقوله تعالى: "واجعلنا للمتقين إماماً" قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير, فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم, وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع, وذلك أكثر ثواباً, وأحسن مآباً, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به من بعده, أو صدقة جارية".
73- "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم" أي بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام. قيل المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجداً وبكياً، ولم يخروا عليها صماً وعمياناً. قال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.
73- "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا"، لم يقعوا ولم يسقطوا، "عليها صماً وعمياناً"، كأنهم صم عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه. قال القتيبي: لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها.
73ـ " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم " بالوعظ أو القراءة . " لم يخروا عليها صماً وعمياناً " لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية ، فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك : لا يلقاني زيد مسلماً . وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها " باللغو " .
73. And those who, when they are reminded of the revelations of their Lord, fall not deaf and blind thereat.
73 - Those who, when they are admonished with the Signs of their Lord, droop not down at them as if they were deaf or blind;