(ثم قست قلوبكم) أيها اليهود صلبت عن قبول الحق (من بعد ذلك) المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات (فهي كالحجارة) في القسوة (أو أشد قسوة) منها (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقَّق) فيه إدغام التاء في الأصل في الشين (فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط) ينزل من علو إلى أسفل (من خشية الله) وقلوبكم لا تتأثروا ولا تلين ولا تخشع (وما الله بغافل عما تعملون) وإنما يؤخركم لوقتكم وفي قراءة بالتحتانية وفيه التفات عن الخطاب
قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل، وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول، فقال لهم: "ثم قست قلوبكم"، أي جفت وغلظت وعست، كما قال الراجز:
وقد قسوت وقسا لداتي
يقال قسا و عسا و عتا بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوًا وقسوة وقساوة وقساءً.
ويعني بقوله: "من بعد ذلك"، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادارأوا في قتله، فأخبرهم بقاتله، وبالسبب الذي من أجله قتله، كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية، كما:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها يعني ببعض البقرة جلس حيًا، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك " يعني بني أخي الشيخ "فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك"، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم، "فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
القول في تأويل قوله تعالى: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
قال أبوجعفر: يعني بقوله: "فهي": "قلوبكم". يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له، والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسًا وغلظًا وشدة، "أو أشد قسوة"، يعني: قلوبهم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم أشد صلابة من الحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة " و أو عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالاً. فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله "فهي كالحجارة أو أشد قسوة"، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي بـ أو كقوله "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" (الصافات: 147) وكقول الله جل ذكره "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سبأ: 124) الإبهام على من خاطبه، فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحب محمــدًا حبًا شديـــدًا وعباسًا وحــمزة والـــوصيــا
فإن يك حبهم رشدًا أصبه ولست بمخطىء إن كان غيا
قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًا في أن حب من سمى رشد، ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت فقال: كلا والله ثم انتزع بقول الله عز وجل: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سبأ: 24)، فقال: أو كان شاكًا من أخبر بهذا في الهادي من الضلال.
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوًا أو حامضًا، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة"، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلاً للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم:"أو" في قوله:"أو أشد قسوة"، بمعنى، وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى:"ولا تطع منهم آثما أو كفورا" (الإنسان: 24) بمعنى: وكفورًا، وكما قال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا كما أتى ربه موسى على قدر
يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرًا، وكما قال النابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
يريد: ونصفه.
وقال آخرون، أو في هذا الموضع بمعنى بل ، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" (الصافات: 147)، بمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولاً، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد، على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة. لأن أو، وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها ما وجدنا إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: "أو أشد قسوة"، فمن وجهين:
أحدهما: أن يكون عطفًا على معنى الكاف في قوله:"كالحجارة"، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى مثل فيكون تأويله: فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
والوجه الآخر: أن يكون مرفوعًا، على معنى تكرير هي لم عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
القول في تأويل قوله تعالى: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار": وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وإنما ذكر فقال "منه"، للفظ ما.
والتفجر التفعل من تفجر الماء، وذلك إذا تنزل خارجًا من منبعه، وكل سائل شخص خارجًا من موضعه ومكانه، فقد انفجر، ماء كان ذلك أو دمًا أو صديدًا أو غير ذلك، ومنه قول عمر بن لجأ:
ولما أن قرنت إلى جرير أبى ذو بطنه إلا انفجارا
يعني: إلا خروجًا وسيلانًا.
القول في تأويل قوله تعالى:"وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن منها لما يشقق"، وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينًا مشددة.
وقوله: "فيخرج منه الماء"، فيكون عينًا نابعةً وأنهارًا جارية.
القول في تأويل قوله تعالى:"وإن منها لما يهبط من خشية الله".
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى الهبوط فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه اللامات اللواتي في ما، توكيدًا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، مثلاً معذرة منه جل ثناؤه لها، دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله"، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة"، ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج أنه قال فيها: كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن.
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله.
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكًا إذ تجلى له ربه.
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه.
كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن.
وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن حجرًا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن".
وقال آخرون: بل قوله: "يهبط من خشية الله" كقوله: "جدارًا يريد أن ينقض" (الكهف: 77)، ولا إرادة له. قالوا لانما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع، من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل:
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدًا للحوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل، يصف عدوًا له:
ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع
يريد أنه ذليل.
وكما قال جرير بن عطية:
لما أتى خبر الرسول تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال آخرون: معنى قوله: "يهبط من خشية الله"، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل: ناقة تاجرة، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:
وأعور من نبهان، أما نهاره فأعمى، وأما ليله فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها.
وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: "وما الله بغافل عما تعملون".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "وما الله بغافل عما تعملون"، وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا.
وأصل الغفلة عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ.
قوله تعالى : "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون" .
قوله تعالى : "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" القسوة : الصلابة والشدة واليبس . وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى . قال أبو العالية و قتادة وغيرهما : المراد قلوب جميع بني إسرائيل . وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب ، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى ، فلم يكونوا قط أعمى قلوباً ، ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك ، لكن نفذ حكم الله بقتله . روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" . وفي مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" .
قوله تعالى "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" أو قيل هي بمعنى الواو ، كما قال : "آثما أو كفورا" . "عذرا أو نذرا" وقال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت . وقيل : هي بمعنى بل ، قوله تعالى : "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" المعنى بل يزيدون . وقال الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت . وقيل : معناها الإبهام على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطىء إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر ، وإنما قصد الإبهام . وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك : شككت ! قال : لا ، ثم استشهد بقوله تعالى : "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" وقال : أو كان شاكاً من أخبر بهذا ! وقيل : معناه التخيير ، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا ، وهذا كقول القائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو . وقيل : بل هي على بابها من الشك ، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم : أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة ؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى : "إلى مائة ألف أو يزيدون" . وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر . فالمعنى : هم فرقتان .
قوله تعالى : "أو أشد" أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله كالحجارة لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد . ويجوز أو أشد عطف على الحجارة . و "قسوة" نصب على التمييز . وقرأ أبو حيوة قساوة والمعنى واحد .
قوله تعالى : "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" قد تقدم معنى الانفجار . ويشقق أصله يتشقق ، أدغمت التاء في الشين ، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً ، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسخ . وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون ، وقرأ لما يتفجر لما يتشقق بتشديد لما في الموضعين . وهي قراءة غير متجهة . وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون وكسر الجيم . قال قتادة : عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم . قال أبو حاتم :يجوز لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في تشقق . قال النحاس يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى وإن منها لحجارة تتشقق ، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما . والشق واحد الشقوق ، فهو في الأصل مصدر ، تقول : بيد فلان ورجليه شقوق ، ولا تقل : شقاق ، إنما الشقاق داء يكون بالدواب ، وهو تتشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها ، عن يعقوب . والشق : الصبح . و ما في قوله : "لما يتفجر" في موضع نصب ، لأنها اسم إن واللام للتأكيد . منه على لفظ ما ، ويجوز منها على المعنى ، "وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" . وقرأ قتادة وإن في الموضعين ، مخففة من الثقيلة .
قوله تعالى : "وإن منها لما يهبط من خشية الله" يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم ،لخروج الماء منها وترديها . قال مجاهد : ما تردى حجر من رأس جبل ، ولا تفجر نهر من حجر ، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ، نزل بذلك القرآن الكريم . ومثله عن ابن جريج . وقال بعض المتكلمين في قوله : "وإن منها لما يهبط من خشية الله" . البرد الهابط من السحاب . وقيل : لفظة الهبوط مجاز ، وذلك أن الحجارة لما كانت القولب تعتبر بخلقها ، وتخشع بالنظر إليها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة ، أي تبعث من يراها على شرائها . وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله : "يريد أن ينقض" ، وكما قال زيد الخيل :
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى : "وإن منها" راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، أي من القلوب لما يخضع من خشية الله .
قلت : كل ما قيل يحتمله اللفظ ، والأول صحيح ، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل ، كالذي .
روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، فلما تحول عنه جن وثبت عنه أنه قال :
" إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن " . وما " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله" . فناداه حراء :إلي يا رسول الله . وفي التنزيل : "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال" الآية . وقال : "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" يعني تذللاً وخضوعاً ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة سبحان إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : "وما الله بغافل عما تعملون" بغافل في موضع نصب على لغة أهل الحجاز ، وعلى لغة تميم في موضع رفع . والياء توكيد . "عما تعملون" أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم ، "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" . ولا تحتاج ما إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الأسم ، أي عن الذي تعملونه . وقرأ ابن كثير "يعملون" بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام .
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" كله، فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له: من قتلك ؟ قال: بنو أخي قتلوني ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الايات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء : أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن، وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله" أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق "وما الله بغافل عما تعملون" وقال أبو علي الجياني في تفسيره "وإن منها لما يهبط من خشية الله" هو سقوط البرد من السحاب، قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد، وتبعه في استبعاده الرازي، وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل، والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا هشام ابن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " قال: كثرة البكاء "وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" قال: قليل البكاء "وإن منها لما يهبط من خشية الله" قال: بكاء القلب من غير دموع العين، وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: "يريد أن ينقض" قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها" وقال: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن" الاية، وقال: "والنجم والشجر يسجدان" " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله " الاية، "قالتا أتينا طائعين" "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" الاية: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله" الاية، وفي الصحيح "هذا جبل يحبنا ونحبه" وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الان" وفي صفة الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه، وحكى القرطبي قولاً أنها للتخيير أي مثلاً لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولاً آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزاً أو تمراً، وهو يعلم أيهما أكل، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل: كل حلواً أو حامضاً، أي لا يخرج عن واحد منهما، أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين، والله أعلم.
(تنبيه) اختلف علماء العربية في معني قوله تعالى: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" بعد الاجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: أو: ههنا بمعنى الواو ، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى: "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" "عذراً أو نذراً" وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد ونصفه، قاله ابن جرير ، وقال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة وكانت له قدراً، وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله: "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية"، "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون"، "فكان قاب قوسين أو أدنى" وقال آخرون: معنى ذلك: "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" عندكم حكاه ابن جرير ، وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:
أحب محمداً حباً شديداً وعباساً وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشداً أصبه وليس بمخطئ إن كان غيا
وقال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكاً في أن حب من سمى رشد، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات، قيل له: شككت ؟ فقال: كلا والله، ثم انتزع بقول الله تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " فقال: أو كان شاكاً من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال ؟ وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة. قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل، فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة ، وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره (قلت) وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" مع قوله: "أو كصيب من السماء" وكقوله: "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" مع قوله: "أو كظلمات في بحر لجي" الاية، أي إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم، وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله: القلب القاسي" رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به، ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم، وروى البزار عن أنس مرفوعاً "أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، طول الأمل، والحرص على الدنيا".
والقسوة: الصلابة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله، والإشارة بقوله: 74- "من بعد ذلك" إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها. قيل: أو في قوله: "أو أشد قسوة" بمعنى الواو كما في قوله تعالى: " آثما أو كفورا " وقيل: هي بمعنى بل، وعلى أن أو على أصلها أو بمعنى الواو، فالعطف على قوله: "كالحجارة" أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشد قسوة منها، فشبهوها بأي الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه. وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع أو ههنا مع كونها للترديد: أي لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشد مع كونه يصح أن يقال وأقسى من الحجارة، لكونه أبين وأدل على فرط القسوة، كما قاله في الكشاف. وقرأ الأعمش أو أشد بنصب الدال، وكأنه عطفه على الحجارة فيكون أشد مجروراً بالفتحة. وقوله: "وإن من الحجارة" إلى آخره، قال في الكشاف: إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله "أو أشد قسوة" انتهى. وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً. التفجر: التفتح، وقد سبق تفسيره. وأصل "يشقق" يتشقق أدغمت التاء في الشين، وقد قرأ الأعمش يتشقق على الأصل. وقرا ابن مصرف ينشق بالنون، والشق واحد الشقوق، وهو يكون بالطول أو بالعرض، بخلاف الانفجار فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق. والمراد: أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق، ومن الحجارة ما يهبط: أي ينحط من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل به، وقيل: إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها، والتواضع الكائن فيها انقياداً لله عز وجل، فهو مثل قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار، وكما قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله: "وإن منها" راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، وهو فاسد، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة، التي هي أشد الأجسام صلابة وأعظمها صلادة، فإنها ترجع إلى نوع من اللين، وهي تفجرها بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب. وفي قوله: "وما الله بغافل عما تعملون" من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها" قال: اختلفتم فيها "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال: ما تغيبون. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن المسيب بن رافع قال: "ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله"، وتصديق ذلك في كتاب الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون". وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب لها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائناً ما كان". وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر الله عليها منها رداء يعرف به" ورواه البيهقي أيضاً بنحوه من قول عثمان قال: والموقوف أصح. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعاً حديثاً طويلاً في هذا المعنى، ومعناه: ان الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدث به الناس ويزيدون، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتاً على كل بيت باب من حديد، وفي إسناده ضعف. وأخرج ابن عدي من حديث أنس أيضاً مرفوعاً "إن الله مرد كل امرئ رداء عمله". ولجماعة من الصحابة والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فقلنا اضربوه ببعضها" قال: ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها. وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: ضرب بالبضعة التي بين الكتفين. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها، وقد استوفاها في الدر المنثور. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" قال: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم فقال: "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" إلى آخر الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أي من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "إن الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه وأنه ليهبط من خشية الله".
74. قوله تعالى: " ثم قست قلوبكم " يبست وجفت، جفاف القلب: خروج الرحمة واللين عنه، وقيل: غلظت، وقيل: اسودت، " من بعد ذلك " من بعد ظهور الدلالات. قال الكلبي : قالوا بعد ذلك: نحن لم نقتله، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك " فهي " أي في الغلظة والشدة " كالحجارة أو أشد قسوة " قيل: أو بمعنى بل وقيل: بمعنى الواو كقوله تعالى: " مائة ألف أو يزيدون " (147-الصافات) أي: بل يزيدون أو ويزيدون، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " قيل: أراد به (جميع) الحجارة، وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط " وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء " أراد به عيوناً دون الأنهار " وإن منها لما يهبط " ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله " من خشية الله " وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود. فإن قيل: جماد لا يفهم، فكيف (يخشى)؟ قيل: الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقل، لا يقف عليه غيره، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " (44-الاسراء) وقال " والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " (41-النور) وقال: " ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر " (18-الحج) الآية، فيجب (المؤمن) الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى سبحانه وتعالى، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل: انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك فقال له جبل حراء: إلي يا رسول الله )).
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري أنا محمد بن اسماعيل الصائغ أنا يحيى بن أبي بكر أنا ابراهيم ابن طهمان عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن " [ هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر وصح عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع على أحد فقال: هذا جبل يحبنا و نحبه "وروي عن أبي هريرة يقول،" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال: بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أومن به أنا وأبو بكر ,عمر وماهما ثم " وقال: " بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأدركها صاحبها فاستنفذها، فقال الذئب: فمن لها يوم السبع؟ أي يوم القيامة، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟ فقال: أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم "، وصح عن أبي هريرة قال:" كان رسول صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ. أي: اسكن. فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " صحيح أخرجه مسلم .
أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أ[و سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع أنا أبو الحسن علي بن اسحاق بن هشام الرازي أنا محمد بن أيوب بن ضريس البجلي الرازي أنا محمد بن الصباح عن الوليد ابن أبي ثور عن السدي عن عباد بن أبي يزيد ] عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يارسول الله ".
أنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت ".
قال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله، ويشهد لما قلنا قوله تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " (21-الحشر).
قوله عز وجل " وما الله بغافل " (بساه) " عما تعملون " وعيد وتهديد، وقيل: بتارك عقوبة ما تعملون، بل يجازيكم به، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء.
74-" ثم قست قلوبكم " القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر . وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم الاستبعاد القسوة " من بعد ذلك " يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب . " فهي كالحجارة " في قسوتها " أو أشد قسوة " منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفاً على الحجارة ، وأنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و " أو " للتخيير ، أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها .
" وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقياداً لما أراد الله تعالى به . وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى . والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ " إن " على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم .
" وما الله بغافل عما تعملون " وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير و نافع و يعقوب و خلف و أبو بكر بالياء ضماً إلى ما بعده ، والباقون بالتاء .
74. Then, even after that, your hearts were hardened and became as rocks, or worse than rocks, for hardness. For indeed there are rocks from out which rivers gush, and indeed there are rocks which split asunder so that water Soweth from them. And indeed there are rocks which fall down for the fear of Allah. Allah is not unaware of what ye do.
74 - Thenceforth were your hearts hardened: they became like a rock and even worse in hardness. for among rocks there are some from which rivers gush forth; others there are which when split asunder send forth water; and others which sink for fear o f God. and God is not unmindful of what ye do.