(بلى) تمسكم وتخلدون فيها (من كسب سيئةً) شركاً (وأحاطت به خطيئته) بالإفراد وبالجمع أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركا (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) روعي فيه معنى من
قال أبو جعفر: وقوله: "بلى من كسب سيئة"، تكذيب من الله القائلين من اليهود: "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة"، وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده، كما:حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحق قال، حدثني محمدبن أبي محمد، عن سعيدبن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته "، أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
قال أبو جعفر: وأما "بلى"، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما نعم إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها بل التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد. فزيدت فيها الياء ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت بل لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفاً ورجوعاً عن الجحد. ولتكون أعني بلى رجوعًا عن الجحد فقط، وإقرارًا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت الياء منها على معنى الإقرار والانعام. ودل لفظ بل على الرجوع عن الجحد.
قال أبو جعفر: وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك بالله، كما:حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني عاصم، عن أبي وائل: "بلى من كسب سيئة"، قال: الشرك بالله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبوعاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بلى من كسب سيئة": شركاً.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"بلى من كسب سيئة"، قال: أما السيئة فالشرك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "بلى من كسب سيئة"، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: "بلى من كسب سيئة"، قال: الشرك قال ابن جريج قال، قال مجاهد: "سيئة"، شركًا. حدثت عن عماربن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله. "بلى من كسب سيئة"، يعني: الشرك.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن، السيئة التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عامًا، لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " قوله "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ". فكان معلومًا بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان. فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله، أنه مكفر باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخلنا المدخل الكريم، ما ينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: "بلى من كسب سيئة"، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: "بلى من كسب سيئة"؟
قيل: لما صح أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعني بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الاية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عامًا في صنف ظاهرها، وهي خاصر في ذلك الصنف باطنها.
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء.
القول في تأويل قوله تعالى: " وأحاطت به خطيئته" .
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وأحاطت به خطيئته "، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.
وأصل الإحاطة بالشيء الإحداق به، بمنزلة الحائط الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: "نارا أحاط بهم سرادقها" ( الكهف: 29).
فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبًا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدًا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون. ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: "وأحاطت به خطيئته "، قال: مات بذنبه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: "وأحاطت به خطيئته "، قال: مات عليها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: "وأحاطت به خطيئته "، قال: يحيط كفره بما له من حسنة.
حدثني محمد بن عمرو قال :حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأحاطت به خطيئته "، قال: ما أوجب الله فيه النار.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة "وأحاطت به خطيئته"، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق أقال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "وأحاطت به خطيئته"، قال: الخطيئة الكبائر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قا!، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: "وأحاطت به خطيئته "، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته "، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: "وأحاطت به خطيئته "، قال: مات بخطيئته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله: "وأحاطت به خطيئته "، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: "وأحاطت به خطيئته "، مات بذنوبه.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وأحاطت به خطيئته"، الكبيرة الموجبة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحاطت به خطيئته"، فمات، ولم يتب. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: "وأحاطت به خطيئته "، قال: الشرك، ثم تلا "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" ( النمل: 90).
القول في تأويل قوله تعالى: "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "، فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون.
ويعني بقوله جل ثناؤه: "أصحاب النار"، أهل النار. وإنما جعلهم لها أصحابًا لإيثارهم في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره، بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة، لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرًا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.
"هم فيها"، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: "خالدون " مقيمون، كما:
حدثني محمدبن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمدبن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: "هم فيها خالدون "، أي خالدون أبدًا.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عنالسدي: "هم فيها خالدون"، لا يخرجون منها أبدًا.
قوله تعالى : "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" .
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار، "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس "بلى من كسب سيئة" أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه، وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر ، وقال ابن جريج، عن مجاهد "وأحاطت به خطيئته" قال: بقلبه، وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن "وأحاطت به خطيئته" قال: أحاط به شركه، وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم "وأحاطت به خطيئته" قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب، وعن السدي وأبي رزين نحوه، وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما، وقتادة والربيع بن أنس "وأحاطت به خطيئته" والموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.
وقوله: 81- "بلى" إثبات بعد النفي: أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة. والسيئة المراد بها الجنس هنا، ومثله قوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، "من يعمل سوءاً يجز به" ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به، قيل: هي الشرك وقيل: الكبيرة. وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرأ نافع خطياته بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وقد تقدم تفسير الخلود.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب" قال: لا يدرون ما فيه " وإن هم إلا يظنون " قال: وهم يجحدون نبوتك بالظن. وأخرج ابن جرير عنه قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله. وأخرج ابن جرير عن النخعي قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا أماني" قال: الأحاديث. وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب. وكذا روى مثله عبد بن حميد عن مجاهد، وزاد "وإن هم إلا يظنون" قال: إلا يكذبون. وأخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: نزلت في أهل الكتاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وصححه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره". وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال: "الويل جبل في النار". وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً أنه حجر في النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فويل للذين يكتبون الكتاب" قال: هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة محوه حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش فقالوا: تجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا: نعم نجده طويلاً أزرق سبط الشعر، فأنكرت قريش وقالوا: ليس هذا منا، وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ثمناً قليلاً" قال: عرضاً من عرض الدنيا "فويل لهم" قال: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب "وويل لهم مما يكسبون" يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم. وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولا دلالة فيها على ذلك، ثم ذكر آثاراً عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك "وقالوا لن تمسنا النار" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا: لن نعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، فقال لهم خزنة النار: يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأبد، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم. وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال:" اجتمعت يهود يوماً فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات أربعين يوماً. ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد يديه على رأسه: كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبداً ففيهم نزلت هذه الآية "وقالوا: لن تمسنا النار"". وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود في خيبر: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأوا والله لا نخلفكم فيها أبداً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "قل أتخذتم عند الله عهداً" أي موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا: لا إله إلا الله، لم يشركوا به ولم يكفروا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "أم تقولون على الله ما لا تعلمون" قال: قال القوم: الكذب والباطل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بلى من كسب سيئة" قال: الشرك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: " وأحاطت به خطيئته " قال: أحاط به شركه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: "بلى من كسب سيئة" أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بما له من حسنة "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
81. " بلى " وبل وبلى: حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل " من كسب سيئة " يعني الشرك " وأحاطت به خطيئته " قرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والإحاطة الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، قال ابن عباس و عطاء و الضحاك و أبو العالية و الربيع وجماعة: هي الشرك يموت عليه، وقيل: السيئة الكبيرة. والاحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب، قال عكرمة و الربيع بن خيثم وقال مجاهد : هي الذنوب تحيط القلب، كلما أذنب ذنباً ارتفعت (حتى تغشى) القلب وهي الرين. قال الكلبي : أوبقته ذنوبه، دليله قوله تعالى " إلا أن يحاط بكم " (66-يوسف) أي تهلكوا " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
81-" بلى " إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زماناً مديداً ودهراً طويلاً على وجه أعم ، ليكون كالبرهان على بطلان قولهم ، وتختص بجواب النفي " من كسب سيئةً " قبيحة ، والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات ، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ ، والكسب : استجلاب النفع . وتعليقه بالسيئة على طريق قوله : " فبشرهم بعذاب أليم " .
" وأحاطت به خطيئته " أي استولت عليه ، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شئ من جوانبه ن وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به ، ولذلك فسرها السلف بالكفر . وتحقيق ذلك : أن من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه ، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي ، مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها ، مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها ، كما قال الله تعالى : " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله " . وقرأ نافع " خطيئاته " . وقرئ خطيته على القلب والإدغام فيهما . " فأولئك أصحاب النار " ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا " هم فيها خالدون " دائمون ، أو لابثون لبثاً طويلاً . والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها .
81. Nay, but whosoever hath done evil and his sin surroundeth him; such are rightful owners of the Fire; they will abide therein.
81 - Nay, those who seek gain in evil, and are girt round by their sins, they are companions of the fire: therein shall they abide (for ever).