(و) اذكر (إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوراة وقلنا (لا تعبدون) بالتاء والياء (إلا الله) خبر بمعنى النهي ، وقرئ: {لا تعبدوا} (و) أحسنوا (بالوالدين إحسانا) برا (وذي القربى) القرابة عطف على الوالدين (واليتامى والمساكين وقولوا للناس) قولاً (حَسَنا) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد والرفق بهم ، وفي قراءة بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف فيه مبالغة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فقبلتم ذلك (ثم توليتم) أعرضتم عن الوفاء به ، فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم (إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) عنه كآبائكم
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الميثاق مفعال من التوثق باليمين ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضاً يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " هو أي ميثاقكم "لا تعبدون إلا الله ".
قال أبو جعفر: والقرأة مختلفة في قراءة قوله: "لا تعبدون ". فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال "لا تعبدون " ولا يعبدون وهم غيب، لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول: استحلفت أخاك ليقومن فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول: استحلفته لتقومن ، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك فيكون ذلك صحيحًا جائزاً. فكذلك قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " ولا يعبدون . من قرأ ذلك بالتاء فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ بالياء فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
وأما رفع "لا تعبدون"، فبالتاء التي في "تعبدون "، ولا ينصب بـ أن التي كانت تصلح أن تدخل مع "لا تعبدون إلا الله ". لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: "قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون" (الزمر: 64) فرفع أعبد إذ لم تدخل فيها أن بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر.
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فرفع أحضر وإن كان يصلح دخول أن فيها إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف أن من قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون "، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفي بدلالة الظاهر عليها منها.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، حكاية، كأنك قلت: استحلفناهم: "لا تعبدون "، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك. وبنحو الذي قلنا في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة.
القول في تأويل قوله تعالى: " وبالوالدين إحسانا".
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: "وبالوالدين إحسانا"، عطف على موضع أن المحذوفة في "لا تعبدون إلا الله ". فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله، "وبالوالدين إحسانا"، فرفع "لا تعبدون " لما حذف أن ، ثم عطف "بالوالدين" على موضعها، كما قال الشاعر:
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد على العطف به على موضع الجبال، لأنها لو لم تكن فيها باء خافضة كانت نصبًا. فعطف بـ الحديد على معنى الجبال لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: "وبالوالدين إحسانا".
وأما الإحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: "وبالوالدين "، إذ كان مفهومًا معناه. فكان معنى الكلام لو أظهر المحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً. فاكتفي بقوله: "وبالوالدين " من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً، إذ كان مفهوماً أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحساناً، فجعل الباء التي في الوالدين من صلة الإحسان، مقدمة عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين إحساناً. فزعموا أن الباء التي في الوالدين من صلة المحذوف أعني أحسنوا فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى، أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحساناً، لأنه إنما يقال: أحسن فلان إلى والديه ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " بكذا، "وبالوالدين إحسانا" على ما بينا قبل. فيكون الاحسان حينئذ مصدرًا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره.
فإن قال قائل: وما ذلك الإحسان الذي أخذ عليهم بالوالدين الميثاق؟
قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى: "وذي القربى واليتامى والمساكين " .
قال أبو جعفر: يعني بقوله "وذي القربى"، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
و "القربى" مصدر على تقدير فعلى، من قولك، قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا، بمعنى واحد.
وأما "اليتامى". فهم جمع يتيم مثل أسير وأسارى. ويدخل في اليتامى الذكور منهم وا لإناث.
ومعنى ذلك: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " وحده دون من سواه من الأنداد، "وبالوالدين إحسانا"، وبذى القربى: أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم. والمسكين ، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو مفعيل من المسكنة.
و المسكنة هي ذل الحاجة والفاقة.
القول في تأويل قوله تعالى: "وقولوا للناس حسنا".
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: "وقولوا للناس حسنا"، فأخرج الكلام أمرًا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟
قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب، بالأمر والنهي. فلو كان مكان: "لا تعبدون إلا الله "، لا تعبدوا إلا الله على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره كان حسناً صوابًا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءًا به لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام لو كان مقروءًا كذلك: وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة" ( البقرة: 63). فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: "لا تعبدون إلا الله "، عطف بقوله: "وقولوا للناس حسنا"، على موضع "لا تعبدون "، وإن كان مخالفاً كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع "لا تعبدون ". فكانه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، "وقولوا للناس حسنا". وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدىء الكلام أحياناً على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه، ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب، وتبتدىء أحياناً على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، كما قال الشاعر:
أسيئي بنا أوأحسني لاملومة لدينا ولامقلية إن تقلت
يعني: تقفيت.
وأما الحسن فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة الكوفة غير عاصم: وقولوا للناس حسنا بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: "حسنا" بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القرأة أنه كان يقرأ: وقولوا للناس حسنى على مثال فعلى.
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: حسنا وحسنا. فقال بعض البصريين:هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ الحسن الحسن ، وكلاهما لغة، كما يقال: البخل والبخل ، وما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه. وذلك أن الحسن مصدر والحسن ، هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك: إنما أنت أكل وشرب ، وكما قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
فجعل التحية ضربًا.
وقال آخر: بل الحسن هو الأسم العام الجامع جميع معاني الحسن. والحسن هو البعض من معاني الحسن . قال: ولذلك قال جل ثناؤه، إذ أوصى بالوالدين: "ووصينا الإنسان بوالديه حسنا" (العنكبوت: 8)، يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: "وقولوا للناس حسنا"، يعني بذلك بعض معاني الحسن. قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى الحسن بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما الحسن فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله: "وقولوا للناس حسنا "، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم: "وقولوا للناس " باستعمال الحسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته بضم الحاء وسكون السين.
وأما الذي قرأ ذلك: وقولوا للناس حسنى، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدًا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ فعلى وأفعل إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال: جاءني أحسن ، حتى يقولوا: الأحسن . ولا يقال: أجمل، حتى يقولوا، الأجمل. وذلك أن الأفعل والفعلى، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن وبل أختك الحسنى. وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن.
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية، أن يقولوه للناس، فهو ما حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق،عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله: "وقولوا للناس حسنا"، أمرهم أيضاً بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسناً، أن يأمروا بـ لا إله إلا الله من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال: الحسن أيضاً، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "وقولوا للناس حسنا"، قال، قولوا للناس معروفاً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن، ابن جريج: "وقولوا للناس حسنا"، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثت عن يزيد بن هرون قال: سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: "وقولوا للناس حسنا"، قال: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
حدثني هرون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قول الله جل ثناؤه: "وقولوا للناس حسنا"، قال: من لقيت من الناس فقل له حسناً من القول. قال: وسألت أبا جعفر، فقال مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك، عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: "وقولوا للناس حسنا"، قال: للناس كلهم.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
القول في تأويل قوله: "وأقيموا الصلاة".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "وأقيموا الصلاة"، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها، كما: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشربن عمارة، عن أبي روق،عن الضحاك، عن ابن مسعود قال: "وأقيموا الصلاة"، هذه. وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
القول في تأويل قوله: "وآتوا الزكاة".
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى "الزكاة" وما أصلها.
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية، فهي ما: حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "وآتوا الزكاة"، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قرباناً تهبط إليه نار فتحملها، فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب، من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "وآتوا الزكاة"، يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص. القول في تأويل قوله تعالى: " ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ".
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعد ما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالاً له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم، إلا قليلاً منهم، وهم الذين استثنى الله فقال: "ثم توليتم "، يقول: أعرضتم عن طاعتي، "إلا قليلا منكم "، قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي عمن تولى وأعرض عنها، يقول: تركها استخفافاً بها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: "ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون "، أي تركتم ذلك كله.
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: "وأنتم معرضون "، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: "ثم توليتم إلا قليلا منكم ": ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابًا لبقايا نسلهم على ما ذكرنا فيما مضى قبل ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضاً عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
وقال آخرون: بل قوله: "ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون "، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ . واختلف في الميثاق هنا ، فقال مكي : هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر . وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم وهو قوله : "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله : إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما أنزل في كتبه .
الثانية : :قوله تعالى : "لا تعبدون" قال سيبويه : لا تعبدون متعلق بقسم ، والمعنى : وإذا استخلفناهم والله لا تعبدون ، وأجازه المبرد و الكسائي و الفراء . وقرأ ابي وابن مسعود لا تعبدوا على النهي ، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال : وقوموا ، وقولوا ، وأقيموا ، وآتوا . وقيل : هو في موضع الحال ، أي أخذنا ميثاقهم موحدين ، أو غير معاندين ، قاله قطرب و المبرد أيضاً . وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة و الكسائي يعبدون بالياء من أسفل . وقال الفراء و الزجاج وجماعة : المعنى أخذنا ميثاقهم بالأ يعبدوا إلا الله ، وبأن يحسنوا للوالدين ، وبألا يسفكوا الدماء ، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما ، كقوله تعالى : "أفغير الله تأمروني" . قال المبرد : هذا خطأ ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً ، تقول : وبلد قطعت ، أي رب بلد .
قلت ليس هذا بخطأ ، بل هما وجهان صحيحان ، وعليهما أنشد سيبويه :
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب والرفع ، فالنصب على إضمار أن ، والرفع على حذفها .
الثالثة : قوله تعالى : "وبالوالدين إحسانا" أي وأمرناه بالوالدين إحسانا . وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد ، لأن النشأة الأولى من عند الله ، والنشء الثاني ـ وهو التربية ـ من جهة الوالدين ، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال : "أن اشكر لي ولوالديك" . والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال امرهما ، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، وصلة أهل ودهما ، على ما يأتي بيانه مفصلاً في الإسراء إن شاء الله تعالى .
الرابعة : قوله تعالى : "وذي القربى" عطف ذي القربى على الوالدين . والقربى : بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم . وسيأتي بيان هذا مفصلاً في سورة القتال إن شاء الله تعالى .
الخامسة : قوله تعالى "واليتامى" اليتامى عطف أيضاً ، وهو جمع يتيم ، مثل ندامى جمع نديم . واليتم في بني آدم بفقد الأب ، وفي البهائم بفقد الأم , وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم ، والأول المعروف . وأصله الانفراد ، يقال : صبي يتيم ، أي منفرد من أبيه . وبيت يتيم : أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر . ودرة يتيمة ليس لها نظير . وقيل : أصله الإبطاء ، فسمي به اليتيم ، لأن البر يبطىء عنه . ويقال : يتم ييتم يتماً ، مثل عظم يعظم . ويتم ييتم يتماً ويتماً ، مثل سمع يسمع ، ذكر الوجهين الفراء . وقد أيتمه الله . ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله ، على ما يأتي بيانه في النساء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" . واشار مالك بالسبابة والوسطى ، رواه أبو هرية أخرجه مسلم . وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هصان عن ابي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان" . وخرج أيضاً من حديث حسن بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة " عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ضم يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه ـ قالوا : وما كريمتاه ؟ قال : ـ عيناه ومن كل له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملاً لا يغفر فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال : يا رسول الله أو اثنتين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو اثنتين . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال : هذا والله من غرائب الحديث وغرره " .
السادسة : السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام ، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة ، لأنهم كانوا يسبون بها ، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الإسم فسموها المشيرة ، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد .
وتسمى أيضاً بالسباحة ، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره ، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت .
وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى ، ثم الوسطى أقصر منها ، ثم البنصر أقصر من الوسطى . روى يزيد بن هارون قال : " أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت : خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء ، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه" فقوله عليه السلام :
"أنا وهو كهاتين في الجنة" ، وقوله في الحديث الآخر :
"أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا واشار بأصابعه الثلاث " ، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال : نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة . فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة . وهذا معنى بعيد ، لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ، ومنازل مختلفة .
السابعة : قوله تعالى: "والمساكين" المساكين عطف أيضاً ، أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين ، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم . وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء . روى مسلم عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسبه قال ـ وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" . قال ابن المنذر : وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله .
الثامنة : قوله تعالى : "وقولوا للناس حسنا" حسنا نصب على المصدر على المعنى ، لأن المعنى ليحسن قولكم . وقيل : التقدير وقولوا للناس قولاً ذا حسن ، فهو مصدر لا على المعنى . وقرأ حمزة و الكسائي حسنا بفتح الحاء والسين . قال الأخفش : هما بمعنى واحد ، مثل البخل والبخل ، والرشد والرشد . وحكى الأخفش : حسنى بغير تنوين على فعلى . قال النحاس : وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو الفضلى والكبرى والحسنى ، هذا قول سيبويه . وقرأ عيسى بن عمر حسنا بضمتين ، مثل الحلم . قال ابن عباس : المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها . ابن جريج : قولوا للناس صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته . سفيان الثوري :مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر . أبو العالية : قولوا لهم الطيب من القول ، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجاوزا به . وهذا كله حض على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر ، والسني والمبتدع ، من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه ، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون : "فقولا له قولا لينا" . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون ، والفاجر ليس بأخبث من فرعون ، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه . وقال طلحة بن عمر : قلت لـ عطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة ، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ ، فقال : لا تفعل ! يقول الله تعالى :"وقولوا للناس حسنا" . فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي . و" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة : لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء" . وقيل : أراد بالناس محمداً صلى الله عليه وسلم ، كقوله : "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" فكأنه قال : قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسناً . وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله : "وقولوا للناس حسنا" منسوخ بآية السيف . وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف . قال ابن عطية : وهذا يدل على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، والله أعلم .
التاسعة : قوله تعالى : "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" تقدم القول فيه . والخطاب لبني إسرائيل . قال ابن عطية : وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل ، ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قلت : وهذا يحتاج إلى نقل ، كما ثبت ذلك في الغنائم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص .
العاشرة : قوله تعالى : "ثم توليتم" الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم لهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم ، كما قال ـ شنشنة أعرفها من أخزم ـ "إلا قليلا" كعبد الله بن سلام وأصحابه . و قليلا نصب على الاستثناء ، والمستثنى عند سيبويه منصوب ، لأنه مشبه بالمفعول على الحقيقة ، المعنى : استثنيت قليلاً : "وأنتم معرضون" ابتداء وخبر . والإعراض والتولي بمعنى واحد ، مخالف بينهما في اللفظ . وقيل : التولي بالجسم ، والأعراض بالقلب . قال المهدوي : "وأنتم معرضون" حال ، لأن التولي فيه دلالة على الإعراض .
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى: " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير " وقال تبارك وتعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " إلى أن قال "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل" وفي الصحيحين "عن ابن مسعود ، قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قالالصلاة على وقتها قلت: ثم أي ؟ قال بر الوالدين قلت: ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله" ولهذا جاء في الحديث الصحيح "أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر ؟ قال أمك قال: ثم من ؟ قال أمك قال: ثم من ؟ قال: أباك؟ ثم أدناك ثم أدناك" وقوله تعالى: "لا تعبدون إلا الله" قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل كان أصله "أن لا تعبدوا إلا الله" ونقل من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود أنهما قرآها "لا تعبدوا إلا الله" ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبوبه. قال: واختاره الكسائي والفراء ، قال "واليتامى" وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الاباء ، والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" الاية، وقوله تعالى "وقولوا للناس حسناً" أي كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى "وقولوا للناس حسناً" فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس: حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخزاز،, عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق" وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي، وصححه من حديث أبي عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم به، وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس: حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الاحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي تركوه وراء ظهروهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً" فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة. ومن النقول الغريبة ههنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي، حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني ؟ فقال: إن الله تعالى يقول: "وقولوا للناس حسناً" وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه (قلت) وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام، والله أعلم.
قد تقدم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل. وقال مكي: إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم، وهو قوله: 83- "لا تعبدون إلا الله" وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه. قال سيبويه: إن قوله: "لا تعبدون إلا الله" هو جواب قسم، والمعنى، استحلفناهم والله لا تعبدون إلا الله، وقيل: هو إخبار في معنى الأمر، ويدل على قراءة أبي وابن مسعود لا تعبدوا على النهي ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله: "وقولوا" "وأقيموا" "وآتوا" وقال قطرب والمبرد: إن قوله: "لا تعبدون" جملة حالية: أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين. قال القرطبي: وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي يعبدون بالياء التحتية. وقال الفراء والزجاج وجماعة: إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن تحسنوا بالوالدين، وبأن لا تسفكوا الدماء: ثم حذف أن فارتفع الفعل لزوالها. قال المبرد: هذا خطأ، لأ كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهراً. وقال القرطبي: ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب لقوله: أحضر وبالرفع. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرها، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق. والقربى: مصدر كالرجعى والعقبى، هم القرابة- والإحسان بهم: صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة. واليتامى جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه. وفي سائر الحيوانات: من فقدت أمه. وأصله الانفراد- يقال: صبي يتيم: أي منفرد من أبيه والمساكين جمع مسكين، وهو من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه. وروي عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين. وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها. ومعنى قوله: "وقولوا للناس حسناً" أي قولوا لهم قولاً حسناً فهو صفة مصدر محذوف، وهو مصدر كبشرى، وقرأ حمزة والكسائي حسناً بفتح الحاء والسين. وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد وحكى الأخفش أيضاً حسنى بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى بن عمر حسناً بضمتين: والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر. وقد قيل: إن ذلك هو كلمة التوحيد، وقيل: الصدق، وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل: غير ذلك. وقوله: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" قد تقدم تفسيره، وهو خطاب لبني إسرائيل، فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل، ولا تنزل على ما لا يقبل. وقوله: "ثم توليتم" قيل: الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. وقوله: "إلا قليلاً" منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله: "وأنتم معرضون" في موضع كالنصب على الحال، والإعراض والتولي بمعنى واحد، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب.
83. قوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل " في التوراة، والميثاق العهد الشديد " لا تعبدون إلا الله " قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي (لا يعبدون) بالياء وقرأ الخرون بالتاء لقوله تعالى " وقولوا للناس حسناً " معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعاً، وقرأ أبي بن كعب: لا تعبدوا إلا الله على النهي " بالوالدين إحساناً " أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً، براً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى " وذي القربى " أي وبذي القرابة والقربى مصدر كالحسنى " واليتامى " جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له " والمساكين " يعني الفقراء " وقولوا للناس حسناً " صدقاً وحقاً في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولاتكتموا أمره، هذا قول ابن عباس و سعيد بن جبير و ابن جريج و مقاتل ، وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب : حسناً بفتح الحاء والسين أي قولاً حسناً " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم " أعرضتم عن العهد والميثاق " إلا قليلاً منكم " وذلك أن قوماً منهم آمنوا " وأنتم معرضون " كإعراض آبائكم.
83-" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله " إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " . وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة : لا تعبدوا . وعطف " قولوا " عليه فيكون على إرادة القول : وقيل : تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
ويدل عليه قراءة : ألا تعبدوا ، فيكون بدلاً عن الميثاق ، أو معمولاً له بحذف الجار . وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال : وحلفناهم لا يعبدون . وقرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به ، والباقون بالياء لأنهم غيب " وبالوالدين إحساناً " تعلق بمضمر تقديره : وتحسنون ، أو أحسنوا " وذي القربى واليتامى والمساكين " عطف على الوالدين . " واليتامى " جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل . ومسكين مفعيل من السكون ، كأن الفقر أسكته " وقولوا للناس حسناً " أي قولاً حسناً ، وسماه " حسناً " للمبالغة . وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب حسناً بفتحتين . وقرئ " حسناً " بضمتين وهو لغة أهل الحجاز ، وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم " ثم توليتم " على طريقة الالتفات ، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب ، أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه " إلا قليلاً منكم " يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ، ومن أسلم منهم " وأنتم معرضون " قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة . وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض .
83. And (remember) when We made a covenant with the Children of Israel, (saying): Worship none save Allah (only), and be good to parents and to kindred and to orphans and the needy, and speak kindly to mankind; and establish worship and pay the poor due. Then, after that, ye slid back, save a few of you, being averse.
83 - And remember we took a covenant from the children of Israel (to this effect): worship none but God; treat with kindness your parents and kindred, and orphans and those in need; speak fair to the people; be steadfast in prayer; and practise regular charity. then did ye turn back, except a few among you, and ye backslide (even now).