(وإذ أخذنا ميثاقكم) وقلنا (لا تسفكون دماءكم) تريقونها بقتل بعضكم بعضا (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) لا يخرج بعضكم بعضاً من داره (ثم أقررتم) قبلتم ذلك الميثاق (وأنتم تشهدون) على أنفسكم
قال أبو جعفر: قوله "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " في المعنى والإعراب نظير قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ".
وأما سفك الدم ، فإنه صبه وإراقته.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: "لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم "؟
وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها، فنفوا عن ذلك؟.
قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضاً. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما واحدة، فهما، بمنزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: " إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ".
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: "لا تسفكون دماءكم "، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصًا، فيكون بذلك قاتلاً نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصًا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة: أنت جنيت هذا على نفسك .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم "، أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم "، ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع عن أبي العالية في قوله: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم "، يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً، "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم "، يقول: لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: "لا تسفكون دماءكم "، يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً بغير حق، "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم "، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
القول في تأويل قوله تعالى: "ثم أقررتم ".
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: "ثم أقررتم "، ثم أقررتم بالميثاق الذي أخذنا عليكم: "لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم "، كما:حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: "ثم أقررتم "، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: " وأنتم تشهدون ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: "وأنتم تشهدون ". فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني فهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبًا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: "ثم أقررتم "، يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، "وأنتم تشهدون " على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حكي معنى هذا القول عنه، ابن عباس:حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون " أن هذا حق من ميثاقي عليكم.
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الايات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى.
وتأولوا قوله: "وأنتم تشهدون "، على معنى: وأنتم شهود. ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: "وأنتم تشهدون " ، يقول: وأنتم شهود.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: "وأنتم تشهدون " خبرًا عن أسلافهم، وداخلاً فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله: "وإذ أخذنا ميثاقكم " خبرًا عن أسلافهم، وإن كان خطابًا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، بقوله: "ثم أقررتم وأنتم تشهدون ". فإذ كان خارجًا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم، فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: "ثم أقررتم وأنتم تشهدون " وما أشبه ذلك من الآي بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذ كان ذلك كذلك، فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم، الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : "وإذ أخذنا ميثاقكم" تقدم القول فيه . "لا تسفكون دماءكم" المراد بنو إسرائيل ، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم . لا يسفكون مثل لا تعبدون في الإعراب . وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء ، وهي لغة ، وأبو نهيك تسفكون بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين . والسفك : الصب . وقد تقدم . "ولا تخرجون" معطوف . "أنفسكم" النفس مأخوذة من النفاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه . والدار : المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال . وقال الخليل : كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية . وقيل :سميت داراً لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه . و "أقررتم" من الإقرار ، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم . "وأنتم تشهدون" من الشهادة ، أي شهداء بقلوبكم على هذا . وقيل : الشهادة بمعنى الحضور ، أي تحضرون سفك دمائكم ، وإخراج أنفسكم من دياركم .
الثانية : فإن قيل : وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره ؟ قيل له : لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها . وقيل : المراد القصاص ، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً ، فكأنه سفك دمه . وكذلك لا يزني ولا يرتد ، فإن ذلك يبيح الدم . ولا يفسد فينفى ، فيكون قد أخرج نفسه من دياره . وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى .
وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوارة ميثاقاً ألا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا ينفيه ولا يسترقه ، ولا يدعه يسرق ، إلى غير ذلك من الطاعات .
قلت : وهذا كله محرم علينا ، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! وفي التنزيل : "أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض" وسيأتي . قال ابن خويز منداد : وقد يجوز أن يراد به الظاهر ، لا يقتل الإنسان نفسه ، ولا يخرج من داره سفهاً ، كما تقتل الهند أنفسها . أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه ، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلاً في ديانته وسفهاً في حلمه ، فهو عموم في جميع ذلك . وقد روي :
"أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح ، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا يغشوا النساء ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده ، فقال لامرأته : ما حديث بلغني عن عثمان ؟ وكرهت أن تفشي سر زوجها ، وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك ، فقال : قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه " .
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الاوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير: حلفاء الخزرج، وبنو قريظة: حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الاخر من الفريق الاخر ، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ولهذا قال تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم" وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى: "ثم أقررتم وأنتم تشهدون" أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال محمد بن إسحاق بن يسار ، حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير ، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الاية في قيس بن الخطيم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير ، قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله، يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته، فأعتقه "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم" قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال عبد الله: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الاية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب" جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم " وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " أي استحبوها على الاخرة واختاروها "فلا يخفف عنهم العذاب" أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة "ولا هم ينصرون" أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.
وقوله: 84- "لا تسفكون" الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون وقد سبق. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم الياء وتشديد الفاء وفتح السين والسفك: الصب، وقد تقدم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية، وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه. وقوله: "ثم أقررتم" من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل: الشهادة هنا بالقلوب وقيل هي بمعنى الحضور: أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه.
84. قوله عز وجل " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " أي لا تريقون دماءكم أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وقيل: لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماؤكم، فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم، " ولا تخرجون أنفسكم من دياركم " أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره، وقيل: لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤوهم إلى الخروج بسوء جواركم " ثم أقررتم " بهذا العهد أنه حق وقبلتم " وأنتم تشهدون " اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتقرون بالقبول.
84-" وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم " على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضاً بالقتل والإجلاء عن الوطن . وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه ، لاتصاله به نسباً أو ديناً ، أو لأنه يوجبه قصاصاً . وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دماءكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم ، فإنه الجلاء الحقيقي " ثم أقررتم " بالميثاق واعترفتم بلزومه " وأنتم تشهدون " توكيد كقولك . أقر فلان شاهداً على نفسه . وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم ،فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً .
84. And when We made with you a covenant (saying): Shed not the blood of your people nor turn (a party of) your people out of your dwellings. Then ye ratified (Our covenant) and ye were witnesses (thereto).
84 - And remember we took your covenant (to this effect): shed no blood amongst you, nor turn out your own people from your homes: and this ye solemnly ratified, and to this ye can bear witness.