(ثم أنتم) يا (هؤلاء تقتلون أنفسكم) بقتل بعضكم بعضا (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظَّاهرون) فيه إدغام التاء في الأصل في الظاء ، وفي قراءة التخفيف على حذفها تتعاونون (عليهم بالإثم) بالمعصية (والعدوان) الظلم . (وإن يأتوكم أسارى) وفي قراءة أسرى (تفدوهم) وفي قراءة: {تفادوهم} تنقذونهم من الأسر بالمال أو غيره وهو مما عهد إليهم (وهو) أي الشأن (محرم عليكم إخراجهم) متصل بقوله وتخرجون والجملة بينهما اعتراض : أي كما حرم ترك الفداء، وكانت قريظة حالفوا الأوس ، والنضير الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم ، وكانوا إذا سئلوا لم تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا أمرنا بالفداء فيقال فلم تقاتلونهم ؟ فيقولون حياء أن تستذل حلفاؤنا . قال تعالى : (أفتؤمنون ببعض الكتاب) وهو الفداء (وتكفرون ببعض) وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي) هوان وذل (في الحياة الدنيا) وقد خزوا بقتل قريظة ونَفيِ النَّضير إلى الشام وضرب الجزية (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) بالياء والتاء
قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: "ثم أنتم هؤلاء" وجهان: أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك يا استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال "يوسف أعرض عن هذا" (يوسف: 29)، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان.
والتعاون هو التظاهر. وإنما قيل للتعاون التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو تفاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن "أنتم ".
وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم "هؤلاء"، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس . وإذ قيل: أنا هذا أجلس، كان صحيحًا جائزًا كذلك: أنت ذاك تقوم .
وقد زعم بعض البصريين أن قوله: "هؤلاء" في قوله: "ثم أنتم هؤلاء"، تنبيه وتوكيد لـ أنتم . وزعم أن "أنتم " وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ "هؤلاء" وأولاء، لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة:
أقول له، والرمح يأطر متنه: تبين خفافاً، إنني أنا ذلكا
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" (يونس: 22).
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الاية، نحو اختلافهم فيمن عني بقوله: "وأنتم تشهدون ". ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان " إلى أهل الشرك، حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. قال: أنبهم الله على ذلك، من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثاً ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حرامًا ولا حلالاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقاً لما في التوراة، وأخذاً به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لآهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض "، أي: تفادونه بحكم التوراة، وتقتلونه وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض من عرض الدنيا.
ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة.
وحدثني موسى بن هرون قال، حدثني عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون". قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حالفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير. فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه. فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فلذلك حين عيرهم جل وعز فقال: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنضير. فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضاً، فقال الله جل ثناؤه: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " الآية.
وقال آخرون بما:حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العاليةقال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
قال أبو جعفر: وأما "العدوان" فهو الفعلان من التعدي يقال منه: عدا فلان في كذا عدوًا وعدواناً، واعتدى يعتدي اعتداء، وذلك إذا جاوز حده ظلماً وبغيًا.
وقد اختلف القرأة في قراءة "تظاهرون ". فقرأها بعضهم: تظاهرون على مثال تفاعلون فحذف التاء الزائدة، وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون: تظاهرون فشدد، بتأويل نتظاهرون، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارىء، لأنهما جميعًا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار "تظاهرون " المشددة، طلبًا منه تتمة الكلمة.
القول في تأويل قوله تعالى: " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم "، اليهود. يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: " ثم أنتم " بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: "لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم " تقتلون أنفسكم يعني به: يقتل بعضكم بعضاً وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، ويخرج بعضكم بعضاً من دياره، وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم أحرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعًا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء. لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، "أفتؤمنون ببعض الكتاب " الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم، وقد علمتم أن الكفرمنكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، قال حدثنا سعيد، عن قتادة: " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين؟ والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم افتكوهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم، "وهو محرم عليكم " في كتابكم "إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض "، أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرًا بذلك.
حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإن يأتوكم أسارى تفدوهم يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض "، فكان إخراجهم كفرًا، وفداؤهم إيماناً.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " الآية، قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.
حدثني المثنى قال حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال: أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مرعلى رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"، قال، كفرهم القتل والإخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغني أن عمربن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله: إن يأتوكم أسارى تفدوهم . فقرأه بعضهم: "أسارى تفادوهم"، وبعضهم: أسارى تفادوهم، وبعضهم اسارى تفدوهم ، وبعضهم أسرى تفادوهم .
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: وإن يأتوكم أسرى، فإنه أراد جمع الأسير، إذ كان على فعيل ، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير فعيل، إذ كان الأسر شبيه المعنى في الأذى والمكروه الداخل على الأسير ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل: أسير وأسرى، كما قيل: مريض ومرضى ، وكسير وكسرى، وجريح وجرحى.
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك أسارى، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع فعلان ، إذ كان جمع فعلان الذي له فعلى قد يشارك جمع فعيل كما قالوا: سكارى وسكرى، وكسالى وكسلى ، فشبهوا أسيرا وجمعوه مرة أسارى، وأخرى أسرى بذلك. وكان بعضهم يزعم أن معنى الأسرى مخالف معنى الأسارى، ويزعم أن معنى الأسرى: استئسار القوم بغير أسر من المستأسر لهم، وأن معنى الأسارى معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرًا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع الأسير مرة على فعلى لما بينت من العلة، ومرة على فعالى، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك.
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ وإن يأتوكم أسرى ، لأن فعالى في جمع فعيل غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضاً فاشيًا فيهم جمع ما كان من الصفات التي بمعنى الآلام والزمانة وواحده على تقدير فعيل، على فعلى، كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك الأسير، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.
وأما من قرأ "تفادوهم "، فإنه أراد: إنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدي منكم الذين أسروهم ففادوكم بهم أسراكم منهم.
وأما من قرأ ذلك تفدوهم ، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى أعني: أسرى تفادوهم لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
وأما قوله: "وهو محرم عليكم إخراجهم "، فإن في قوله: "وهو"، وجهين من التأويل: أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر الإخراج الذي بعد "وهو محرم عليكم"، تكريرًا على "هو"، لما حال بين الإخراج و"هو"، كلام.
والتأويل الثاني، أن يكون عمادًا، لما كانت الواو التي مع هو تقتضي اسماً يليها دون الفعل. فلما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يليها أوليت هو، لأنه اسم، كما تقول: آتيتك وهو قائم أبوك بمعنى: وأبوك قائم ، إذ كانت الواو تقتضي اسمًا، فغمدت بـ هو، إذ سبق الفعل الاسم، ليصلح الكلام، كما قال الشاعر:
فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته على العيس في آباطها عرق يبس
بأن السلامي الذي بضرية أميرالحمى، قد باع حقي بني عبس
بثوب ودينار وشاة ودرهم، فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
فأوليت هل هو، لطلبها الاسم العماد.
القول في تأويل قوله تعالى: " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا".
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم ": فليس لمن قتل منكم قتيلاً فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة وأخرج منكم فريقاً من ديارهم مظاهرًا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلمًا وعدواناً وخلافاً لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى جزاء يعني بالجزاء: الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه"إلا خزي في الحياة الدنيا".( والخزي): الذل والصغار، يقال منه: خزي الرجل يخزى خزيا، "في الحياة الدنيا"، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصًا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارًا.
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيًا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى:" ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب".
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب": ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه.
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا.
ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه الألف واللام ، لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.
القول في تأويل قوله تعالى: "وما الله بغافل عما تعملون ".
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وما الله بغافل عما يعملون) بـ الياء، على وجه الإخبار عنهم. فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون"، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.
وقرأه آخرون: " وما الله بغافل عما تعملون" بـ التاء على وجه المخاطبة. قال: فكانهم
نحوا بقراءتهم: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"، وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما تعملون أنتم.
وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأب الياء، إتباعًا لقوله: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم"، ولقوله: "ويوم القيامة يردون ". لأن قوله: "وما الله بغافل عما تعملون" إلى ذلك، أقرب منه إلى قوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض "، فإتباعه الأقرب إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب.
وتأويل قوله: "وما الله بغافل عما تعملون"، وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها، وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم.
قوله تعالى " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " .
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الاوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير: حلفاء الخزرج، وبنو قريظة: حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الاخر من الفريق الاخر ، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ولهذا قال تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم" وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى: "ثم أقررتم وأنتم تشهدون" أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال محمد بن إسحاق بن يسار ، حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير ، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الاية في قيس بن الخطيم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" الاية، وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير ، قال: غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله، يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته، فأعتقه "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم" قال: أنت عبد الله بن سلام ؟ قال: نعم: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال عبد الله: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الاية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب" جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم " وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " أي استحبوها على الاخرة واختاروها "فلا يخفف عنهم العذاب" أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة "ولا هم ينصرون" أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.
وقوله: 85- "ثم أنتم هؤلاء" أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية، وقيل: إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أي أذم أو أخص. وقال القتيبي: إن التقدير يا هؤلاء قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز. وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: هؤلاء مبتدأ وأنتم خبر مقدم وقرأ الزهري: تقتلون مشدداً، فمن جعل قوله: "أنتم هؤلاء" مبتدأ وخبراً جعل قوله: "تقتلون" بياناً لأن معنى قوله: "أنتم هؤلاء" أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق. ومن جعل هؤلاء منادى أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله: "تظاهرون" بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ أهل الكوفة تظاهرون مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها. وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتم من كل أوب ووجهة على واحد لا زلتم قرن واحد
ومنه قوله تعالى: "وكان الكافر على ربه ظهيراً" وقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير". وأسارى حال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهو أسارى، وما جاء مستأسراً فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو. وإنما هذا كما تقول سكارى وسكرى. وقد قرأ حمزة أسرى. وقرأ الباقون أسارى والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع قتيل والجرحى جمع جريح. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال: أسارى كما يقال سكارى. وقال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو القيد الذي يشد به المحمل، فسمي أسيراً لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسرقته: أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يؤخذ. وقوله: "تفادوهم" جواب الشرط، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي، وقرأ الباقون تفدوهم. والفداء: هو ما يوجد من الأسير ليفك به أسره، يقال: فداه وفاداه: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر:
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعاً
وقوله: "وهو محرم عليكم إخراجهم" الضمير للشأن وقيل: مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أول الكلام. "إخراجهم" مرتفع بقوله: "محرم" ساد مسد الخبر، وقيل: بل مرتفع بالابتداء ومحرم خبره. قال المفسرون: كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك. بقوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض". والخزي: الهوان. قال الجوهري: والخزي بالكسر يخزي خزياً: إذا ذل وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالقتل والأسر وضرب الجزية والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشد العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد ومعصية فظيعة. وقد قرأ الجمهور يردون بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب. وقد تقدم تفسير قوله: "وما الله بغافل عما يعملون".
85. قوله عز وجل " ثم أنتم هؤلاء " يعني: يا هؤلاء، وهؤلاء للتنبيه " تقتلون أنفسكم " أي (يقتل) بعضكم بعضاً " وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم " بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء، وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى: " ولا تعاونوا " معناهما جميعاً: تتعاونون، والظهير: العون " بالإثم والعدوان " المعصية والظلم " وإن يأتوكم أسارى " وقرأ حمزة : أسرى، وهما جمع أسير، ومعناهما واحد " تفادوهم " بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة و عاصم و الكسائي و يعقوب ( تفادوهم ) أي تبادلوهم، أراد: مفاداة الأسيربالأسير، وقيل: معنى القراءتين واحد.
ومعنى الآية قال السدي : إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في حرب سمير؟ فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم وبنو النضير وحلفاؤهم وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم، فتعيرهم الاعرب وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا:إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى بذلك فقال: " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها (وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) " وهو محرم عليكم إخراجهم " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، فكأن الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الاخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء.
قال الله تعالى " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " قال مجاهد : يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك " فما جزاء من يفعل ذلك منكم " يا معشر اليهود " إلا خزي " عذاب وهوان " في الحياة الدنيا " فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام " ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب " وهو عذاب النار " وما الله بغافل عما تعملون " قرأ ابن كثير و نافع وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء قوله عز وجل: " أولئك الذين اشتروا ".
85-" ثم أنتم هؤلاء " استبعاد لما ارتكبوا بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه . وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون ، كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا ،نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات ، وعددهم باعتبار ما أسند إليهم حضوراً وباعتبار ما سيحكي عنهم غيباً . وقوله تعالى : " تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " إما حال والعامل فيها معنى الإشارة ، أو بيان لهذه الجملة . وقيل : هؤلاء تأكيد ، والخبر هو الجملة . وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر ، وقرئ " تقتلون " على التكثير . " تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان " حال من فاعل تخرجون ، أو من مفعوله ، أو كليهما . والتظاهر التعاون من الظهر . وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بحذف إحدى التاءين . وقرئ بإظهارها ، وتظهرون بمعنى تتظهرون " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم " روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها ، وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه . وقيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " . وقرأ حمزة " أسرى " وهو جمع أسير كجريح وجرحى ، وأسارى جمعه كسكرى وسكارى . وقيل هو أيضاً جمع أسير ، وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و ابن عام تفدوهم " وهو محرم عليكم إخراجهم " متعلق بقوله " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " ، وما بينهما اعتراض ، والضمير للشأن ، أو مبهم ويفسره إخراجهم ، أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر . وإخراجهم بدل أو بيان " أفتؤمنون ببعض الكتاب " يعني الفداء .
" وتكفرون ببعض " يعني حرمة المقاتلة والإجلاء . " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " كقتل قريظة وسبيهم . وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية على غيرهم . وأصل الخزي ذل يستحيا منه ، ولذلك يستعمل في كل منهما . " ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب " لأن عصيانهم أشد . " وما الله بغافل عما تعملون " تأكيد للوعيد ،أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم . وقرأ عاصم في رواية المفضل ، تردون على الخطاب لقوله " منكم " . و ابن كثير و نافع و عاصم في رواية أبي بكر ، و خلف و يعقوب يعملون على أن الضمير لمن .
85. Yet ye it is who stay each other and drive out a party of your people from their homes, supporting one another against them by sin and transgression, and if they came to you as captives ye would ransom them, whereas their expulsion was itself unlawful for you. Believe ye in part of the Scripture and disbelieve ye in part thereof? And what is the reward of those who do so save ignominy in the life of the world, and on the Day of Resurrection they will be consigned to the most grievous doom. For Allah is not unaware of what ye do.
85 - After this it is ye, the same people, who slay among yourselves, and banish a party of you from their homes; assist (their enemies) against them, in guilt and rancour; and if they come to you as captives, ye ransom them, though it was not lawful for you to banish them. then is it only a part of the book that ye believe in, and do ye reject the rest? but what is the reward for those among you who behave like this but disgrace in this life? and on the day of judgment they shall be consigned to the most grievous penalty. for God is not unmindful of what ye do.