(ولقد آتينا موسى الكتاب) التوراة (وقفينا من بعده بالرسل) أي أتبعناهم رسولاً في إثر رسول (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (وأيدناه) قويناه (بروح القدُس) من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار فلم تستقيموا (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى) تحب (أنفسكم) من الحق (استكبرتم) تكبرتم عن اتباعه جواب كلما وهو محل الاستفهام ، والمراد به التوبيخ (ففريقا) منهم (كذبتم) كعيسى (وفريقا تقتلون) المضارع لحكاية الحال الماضية: أي قتلتم كزكريا ويحيى
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "آتينا موسى الكتاب": أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى الإيتاء الإعطاء، فيما مضى قبل.
والكتاب الذي آتاه موسى عليه السلام، هو التوراة.
وأما قوله: "وقفينا"، فإنه يعني: وأردفنا، وأتبعنا بعضهم خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من القفا، يقال منه: قفوت فلانًا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال: دبرته: إذا صرت في دبره.
ويعني بقوله:"من بعده"، من بعد موسى.
ويعني بـ الرسل: الأنبياء، وهم جمع رسول. يقال: هو رسول وهم رسل، كما يقال: هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم قوم شكر.
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله:"وقفينا من بعده بالرسل"، أي أتبعنا بعضهم بعضًا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من بعثه الله نبيًا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم، فإنما بعثه بأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل:"وقفينا من بعده بالرسل"، يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به.
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات"، أعطينا عيسى ابن مريم.
ويعني بـ البينات التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه وصحة نبوته، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات": أي الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه.
قال أبو جعفر: أما معنى قوله: "وأيدناه"، فإنه قويناه فأعناه، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: "وأيدناه"، يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك الله، أي قواك، وهو رجل ذو أيد، وذو آد، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا
يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر:
إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو جلد وبطش أيد
يعني: بالأيد:القوي.
ثم اختلف في تأويل قوله:"بروح القدس". فقال بعضهم: روح القدس الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل عليه السلام. ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأيدناه بروح القدس". قال: هو جبريل.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وأيدناه بروح القدس"، قال: هو جبريل عليه السلام.
حدثنى المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وأيدناه بروح القدس"، قال: روح القدس، جبريل.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وأيدناه بروح القدس"، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس.
وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: "أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم".
وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل. ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأيدناه بروح القدس"، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا، كما جعل القرآن روحًا، كلاهما زوح الله، كما قال الله: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" (الشورى: 52).
وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وأيدناه بروح القدس"، قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (المائدة: 110)، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله: إذ أيدتك بروح القدس، و إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى إذ أيدتك بروح القدس، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدًا إلا وهو معلمه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام، والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذ كان ذلك كذلك، فبين فساد قول من زعم أن الروح في هذا الموضع، الإنجيل، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحًا منه، لأنها تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية، وتهتدي بها الأحلام الضالة.
وإنما سمى الله تعالى جبريل روحًا وأضافه إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله له روحًا من عنده، من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك روحًا، وأضافه إلى القدس و القدس، هو الطهر كما سمى عيسى ابن مريم روحًا لله، من أجل تكوينه له روحًا من عنده من غير ولادة والد ولده.
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى التقديس : التطهير، والقدس: الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: القدس، البركة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: القدس، وهو الرب تعالى ذكره.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "وأيدناه بروح القدس"، قال: الله، القدس. وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه:"هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس" (الحشر: 23)، قال: القدس والقدوس، واحد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار قال، قال كعب: الله، القدس.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم"، اليهود من بني إسرائيل.
حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل، لقد آتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم، وآتينا عيسى ابن مريم البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم، وقويناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم تجبرًا وبغيًا استكبار إمامكم إبليس، فكذبتم بعضًا منهم وقتلتم بعضًا. فهذا فعلكم أبدًا برسلي.
وقوله: "أفكلما"، وإن كان خرج محرج التقرير في الخطاب، فهو بمعنى الخبر.
قوله تعالى : "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني التوارة . "وقفينا" أي أتبعنا . والتقفية :الإتباع والإرداف ، مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق . تقول استقفيته إذا جئت من خلفه ، ومنه سميت قافية الشعر ، لأنها تتلو سائر الكلام . والقافية :القفا ، ومنه الحديث :
"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم" . والقفي والقفاوة : كما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه . وقفوت الرجل : قذفته بفجور . وفلان قفوني أي تهمتي . وقفوتي أي خيرتي . قال ابن دريد . قال ابن دريد : كأنه من الأضداد . قال العلماء : وهذه الآية مثل قوله تعالى : "ثم أرسلنا رسلنا تترا" . وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوارة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام . ويقال : رسل ورسل لغتان ، الأولى لغة الحجاز ، والثانية لغة تميم ، وسواء كان مضافاً أو غير مضاف . وككان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين ، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد .
قوله تعالى : "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" أي الحجج والدلالات ، وهي التي ذكرها الله في آل عمران و المائدة قاله ابن عباس "وأيدناه" أي قويناه . وقرأ مجاهد و ابن محيصن آيدناه بالمد ، وهما لغتان . "بروح القدس" روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا : جبريل عليه السلام . قال حسان :
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس : وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس ، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحاً من غير ولادة والد ولده ، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا . وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال : القدس هو الله عز وجل . وكذا قال الحسن : القدس هو الله ، وروحه جبريل : وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس : بروح القدس قال :هو الإسم الذي كان يحيى به عيسى الموتى ، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير ، وهو اسم الله الأعظم . وقيل : المراد الإنجيل ، سماه روحاً كما سمى الله القرآن روحاً في قوله تعالى : "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم" أي بما لا يوافقها ويلائمها ، وحذفت الهاء لطول الإسم ، أي بما لا تهواه . "استكبرتم" عن إجابته احتقاراً للرسل ، واستبعاداً للرسالة . وأصل الهوى الميل إلى الشيء ، ويجمع أهواء ، كما جاء في التنزيل ، ولا يجمع أهوية ، على أنهم قد قالوا في ندى أندية ، قال الشاعر :
في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
قال الجوهري : وهو شاذ : :وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه ، وهذه الآية من ذلك . وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر :
فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابو بكر ولم يهو ما قلت : وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث :
"والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" . أخرجهما مسلم .
قوله تعالى : "ففريقا كذبتم" ففريقا منصوب بـ كذبتم ، وكذا وفريقا تقتلون فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام ، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام ، على ما يأتي بيانه في سبحان إن شاء الله تعالى .
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة، فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء" الاية: ولهذا قال تعالى: "وقفينا من بعده بالرسل" قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا، وقال غيره: أردفنا والكل قريب كما قال تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترا " حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات، قال ابن عباس من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام ـ ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخباراً عن عيسى: "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم" الاية، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة، ففريقاً يكذبونه، وفريقاً يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم، وربما قتلوا بعضهم، ولهذا قال تعالى: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون".
والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الاية، وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى: " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين " ما قال البخاري وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" فهذا من البخاري تعليقاً، وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي، عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم، عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به، قال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث أبي الزناد، وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينه، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني اللهم أيده بروح القدس" فقال: اللهم نعم، وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: "أن نفراً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أخبرنا عن الروح، فقال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم"، وفي صحيح ابن حبان، عن ابن مسعود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". أقوال أخر ـ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا بشر عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس "وأيدناه بروح القدس" قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير: حدثت عن المنجاب فذكره، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضاً قال: وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى، وهو قول كعب، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل، وهو قول كعب، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول، وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس: القدس: الطهر ، وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله تعالى "وأيدناه بروح القدس" قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحاً كما جعل القرآن روحاً، كلاهما روح من الله، كما قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" ثم قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع: جبرائيل، فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" الاية، فذكر أنه أيده به، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل، لكان قوله: " إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " تكرير قول لا معنى له، والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به، (قلت) ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق، ولله الحمد، وقال الزمخشري "بروح القدس" بالروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال:"وروح منه" فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل، قيل بالإنجيل كما قال في القرآن "روحاً من أمرنا" وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولاً آخر ، وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة، وقال الزمخشري في قوله تعالى: "ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" إنما لم يقل وفريقاً قتلتم، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري (قلت) وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.
87- "الكتاب": التوراة، والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق، تقول: استقفيته: إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و"البينات" الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة. والتأييد: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن " وأيدناه " بالمد وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الروح المقدسة. والقدس: الطهارة، والمقدس: المطهر- وقيل: هو جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان:
وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس: وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة- وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل، وقيل: المراد بروح القدس: الإسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، وقيل: المراد به الإنجيل، وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوة. وقوله: "بما لا تهوى أنفسكم" أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء. قال الجوهري: وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال: "أفكلما جاءكم رسول" منكم "بما لا" يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، والفاء في قوله: أفكلما للعطف على مقدر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا.
87- قوله تعالى : " ولقد آتينا " أعطينا " موسى الكتاب " التوراة ، جملة واحده " وقفينا " وأتبعنا " من بعده بالرسل " رسولا بعد رسول " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل : أراد الإنجيل " وأيدناه " قويناه " بروح القدس " قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب و الرعب ، واخبلفوا في روح القدس ، قال الربيع وغيره : أراد بالروح الروح الذي نفخ فيه ، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريماً وتخصيصاً نحو بيت الله ، وناقة الله ، كما قال : " فنفخنا فيه من روحنا " ( 12- التحريم ) " وروح منه " (171-النساء) وقيل : أراد بالقدس الطهارة ، يعني الروح الطاهرة ، سمى روحه قدساً ، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة ، وام تشتمل عليه أرحام الطوامث ، إنما كان أمراً من الله تعالى ، قال قتادة و السدي و الضحاك : روح القدس جبريل عليه السلام قيل : وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنباً ، قال الحسن : القدس هو الله وروحه جبريل قال الله تعالى : " قل نزله روح القدس من ربك بالحق "( 102- النحل ) وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به الله ( الى السماء ) وقيل : سمي جبريل عليه السلام روحاً للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وقال ابن عباس و سعيد بن جبير : روح القدس هو إسم الله تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويرى الناس به العجائب ، وقيل : هو الإنجيل جعل له روحا كما ( جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب ) قال تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا " ( 52- الشورى ) فلما سمع اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا : يامحمد لا مثل عيسى _ كما تزعم _ عملت ، ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا .
قال الله تعالى : " أفكلما جاءكم " يا معشر اليهود " رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم " تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان " ففريقاً " طائفة " كذبتم " مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم " وفريقا تقتلون " أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وسائر من قتلوه من الأنبياء عليهم السلام .
87-" ولقد آتينا موسى الكتاب " أي التوراة " وقفينا من بعده بالرسل " أي أرسلنا على أثره الرسل ، كقوله سبحانه وتعالى : " ثم أرسلنا رسلنا تترا " . يقال قفاه إذا اتبعه ، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا ، نحو ذنبه من الذنب " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، والإخبار بالمغيبات . أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرية أبشوع . ومريم بمعنى الخادم ، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال ، قال رؤية : قلت لزير لم تصله مريمه . ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل " وأيدناه " وقويناه ، وقرئ آيدناه بالمد " بروح القدس " بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق ، وأراد به جبريل ، وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو الإنجيل ، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ، وقرأ ابن كثير " القدس " بالإسكان في جميع القرآن " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم " بما لا تحبه . يقال هوي بالكسر إذا أحب هوياً بالفتح هوى بالضم إذا سقط . ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخاً لهم على تعقيبهم ذلك بهذا وتعجيباً من شأنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافاً والفاء للعطف على مقدر ، " استكبرتم " عن الإيمان واتباع الرسل . " ففريقاً كذبتم " كموسى وعيسى عليهما السلام ، والفاء للسببية أو للتفصيل " وفريقاً تقتلون " كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس ، فإن الأمر فظيع . أو مراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، لولا أني أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة .
87. And verily We gave unto Moses the Scripture and We caused a train of messengers to follow after him, and We gave unto Jesus, son of Mary, clear proofs (of Allah's sovereignty), and We supported him with the holy Spirit is it ever so, that, when there cometh unto you a messenger (from Allah) with that which ye yourselves desire not, ye grow arrogant, and some ye disbelieve and some ye slay?
87 - We gave Moses the book and followed him up with a succession of apostles; we gave Jesus the son of Mary clear (signs) and strengthened him with the holy spirit. is it that whenever there comes to you an apostle with what ye yourselves desire no t, ye are puffed up with pride? some ye called impostors, and others ye slay!