(ودوا) تمنوا (لو تكفرون كما كفروا فتكونون) أنتم وهم (سواء) في الكفر (فلا تتخذوا منهم أولياء) توالونهم وإن أظهروا الإيمان (حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم (فإن تولوا) وأقاموا على ما هم عليه (فخذوهم) بالأسر (واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا) توالونه (ولا نصيرا) تنتصرون به على عدوكم
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ودوا لو تكفرون كما كفروا"، تمنى هؤلاء المنافقون ، الذين أنتم ، أيها المؤمنون ، فيهم فئتان ، أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم ، وتصديق نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، "كما كفروا"، يقول : كما جحدوا هم ذلك ، "فتكونون سواء"، يقول : فتكونون كفاراً مثلهم ، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله، "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، يقول : حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون ، إلى دار الإسلام وأهلها، "في سبيل الله"، يعني : في ابتغاء دين الله، وهو سبيله ، فيصيروا عند ذلك مثلكم ، ويكون لهم حينئذ حكمكم ، كما:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدتني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم ، يعني الهجرة في سبيل الله .
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله ، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام ، "فخذوهم" أيها المؤمنون ، "واقتلوهم حيث وجدتموهم"، من بلادهم وغير بلادهم ، أين أصبتموهم من أرض الله ، "ولا تتخذوا منهم وليا"، يقول : ولا تتخذوا منهم خليلاً يواليكم على أموركم ، ولا ناصراً ينصركم على أعدائكم ، فإنهم كفار لا يالونكم خبالاً، ودوا ما عنتم.
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ، إبانة عن صحة نفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم ، وتحذير لمن دافع عنهم عن المدافعة عنهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم"، فإن تولوا عن الهجرة، "فخذوهم واقتلوهم".
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم"، يقول : إذا أظهروا كفرهم ، فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
فيه خمس مسائل ، الأولى قوله تعالى : " ودوا لو تكفرون " أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفالق شرع سواء فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا " كما قال تعالى :" ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " الأنفال - 72 ، والهجرة أنواع منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : " لا هجرة بعد الفتح " وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات ، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرم الله عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه " ، وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن .
وهجرة أهل المعاصي حت يرجعوا تأديبن لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حت يتوبوا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه " فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم " يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فاسروهم واقتلوهم . " حيث وجدتموهم " عام في الأماكن من حل وحرم والله أعلم ثم استثنى وهي :
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين: واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا شعبة, قال عدي بن ثابت, أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه, فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم, وفرقة تقول: لا, هم المؤمنون, فأنزل الله "فما لكم في المنافقين فئتين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش, رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة, وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام, وكانوا يظاهرون المشركين, فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس, وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة, قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم, فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم, وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله, أو كما قالوا: أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم, نستحل دماءهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين, والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء, فنزلت "فما لكم في المنافقين فئتين" رواه ابن أبي حاتم, وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا, وقال زيد بن أسلم عن ابن لسعد بن معاذ: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي, حين استعذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك, وهذا غريب, وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: "والله أركسهم بما كسبوا" أي ردهم وأوقعهم في الخطأ, قال ابن عباس "أركسهم" أي أوقعهم, وقال قتادة: أهلكم وقال السدي: أضلهم, وقوله: "بما كسبوا" أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل "أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا" أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه, وقوله: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عدواتهم وبغضهم لكم ولهذا قال: "فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا" أي تركوا الهجرة, قاله العوفي عن ابن عباس, وقال السدي: أظهروا كفرهم "فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً" أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك, ثم استثنى الله من هؤلاء, فقال: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة, أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم, وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير, وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان, عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم, قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج, فأتيته فقلت: أنشدك النعمة, فقالوا: صه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه, ما تريد ؟" قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم, فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام, وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد" فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسملوا معهم, فأنزل الله "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء".
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة, وقال: فأنزل الله "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم, وهذا أنسب لسياق الكلام, وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم, ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم, وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" الاية.
وقوله: " أو جاؤوكم حصرت صدورهم " الاية, هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجئيون إلى المصاف وهم حصرة صدروهم أي ضيقة صدروهم مبغضين أن يقاتلوكم, ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم "ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم" أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم" أي المسالمة "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك , وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره, وقوله: "ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم" الاية, هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم, ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك, فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهمم وذراريهم, ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك, كما قال تعالى: "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم" الاية, وقال ههنا " كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " أي انهمكوا فيها, وقال السدي: الفتنة ـ ههنا ـ الشرك, وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان, يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا, فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى: "فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم" المهادنة والصلح, "ويكفوا أيديهم" أي عن القتال, "فخذوهم" أسراء, "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" أي أين لقيتموهم, "وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً" أي بيناً واضحاً.
قوله 89- "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين وإيضاح أنهم يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ويتمنوا ذلك عناداً وغلواً في الكفر وتمادياً في الضلال، فالكاف في قوله "كما" نعت مصدر محذوف: أي كفراً مثل كفرهم، أو حال كما روي عن سيبويه. قوله "فتكونون سواء" عطف على قوله "تكفرون" داخل في حكمه: أي ودوا كفركم ككفرهم، وودوا مساواتكم لهم. قوله "فلا تتخذوا منهم أولياء" جواب شرط محذوف: أي إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بالهجرة "فإن تولوا" عن ذلك "فخذوهم" إذا قدرتم عليهم "واقتلوهم حيث وجدتموهم" في الحل والحرم "ولا تتخذوا منهم ولياً" توالونه "ولا نصيراً" تستنصرون به.
89-قوله تعالى:"ودوا" ،تمنوا، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنوا"لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء "،في الكفر، وقوله"فتكونون"لم يرد به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب، إنما أراد النسق،أي: ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون سواء، مثل قوله " ودوا لو تدهن فيدهنون" (القلم-9) أي: ودوا لو تدهن وودوا لو تدهنون"فلا تتخذوا منهم أولياء"، منع من موالاتهم، "حتى يهاجروا في سبيل الله"،معكم.
قال عكرمة: هي هجرة أخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه: هجرة المؤمنين في أول الإسلام ، وهي قوله تعالى:"للفقراء المهاجرين"(الحشر-8) وقوله:"ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله" (النساء-100) ، ونحوهما من الآيات وهجرة المنافقين: وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً [ كما حكي ها هنا] منع من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله ، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
قوله تعالى:"فإن تولوا"، أعرضوا عن التوحيد والهجرة،"فخذوهم"،أي خذوهم أسارى ، ومنه يقال للأسير أخيذ،"واقتلوهم حيث وجدتموهم" في الحل والحرم،"ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً" ثم استثنى طائفةً منهم فقال:
89" ودوا لو تكفرون كما كفروا " تمنوا أن تكفروا ككفرهم. "فتكونون سواءً" فتكونون معهم سواء في الضلال، وهو عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز. " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " فلا توالوهم حتى يؤمنوا وتتحققوا إيمانهم بهجرة هي إلى الله ورسوله لا لأغراض الدنيا، وسبيل الله ما أمر بسلوكه. " فإن تولوا " عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان. " فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم " كسائر الكفرة. " ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " أي جانبوهم رأساً ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة.
89. They long that ye should disbelieve even as they disbelieve, that ye may be upon a level (with them). So choose not friends from them till they forsake their homes in the way of Allah; if they turn back (to enmity) then take them and kill them wherever ye find them, and choose no friend nor helper from among them,
89 - They but wish that ye should reject faith, as they do, and thus be on the same footing (as they): but take not friends from their ranks until they flee in the way of God (from what is forbidden). but if they turn renegades, seize them and slay them wherever ye find them; and (in any case) take no friends or helpers from their ranks;