يخادعون الله والذين آمنوا) بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية (وما يخادعون إلا أنفسهم) لأن وبال خداعهم راجع إليهم فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة (وما يشعرون) يعلمون أن خداعهم لأنفسهم والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها تحسين ، وفي قراءة وما يخدعون
قال أبو جعفر: وخداع المنافق ربه والمؤمنين، إظهاره بلسانه من القول والتصديق، خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب، ليدرأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكم الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء. فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟
قيل: لا تمنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه مخادعاً لمن تخلص منه بالذى أظهر له من التقية. فكذلك المنافق، سمي مخادعاً لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن. وذلك من فعله وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يعطيها أمنيتها، ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه، ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه: "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون "، إعلامًا منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره: "يخادعون الله والذين آمنوا" إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون،. يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا.
وهذه الأية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده، والإقرار بكتبه ورسله عنده. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه، واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مصرون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما، فإنما يقال: ضربت أخاك، وجلست إلى أبيك. فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟ قيل: قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة أعني يخادع بصورة يفاعل، وهو بمعنى يفعل ، في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك الله، بمعنى قتلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يعرف من معنى يفاعل ومفاعل في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما تقدم وصفه والله تبارك اسمه خادعه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده، كالذي أخبر في قوله: "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" (آل عمران: 178) وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" ( الحديد: 13) فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ (يفاعل ومفاعل ). وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل: يخادعون الله عند أنفسهم، بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم، قال: وقد قال بعضهم: (وما يخدعون)، يقول: يخدعون أنفسهم بالتخلية بها. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ("وما يخدعون إلا أنفسهم ".
إن قال قائل: أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟ قيل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين، لأنا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين. كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلاناً، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع المنافقون ربهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر، فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلاناً فلم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع المنافق ربه والمؤمنين فلم يخدع إلا نفسه ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه، لأن الخادع هو الذي قد صحت الخديعة له، ووقع منه فعلها. فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لأن ما كان لهم من مال وأهل، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة، والله بما يخفون من أمورهم عالم. وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه. فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه، غير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع، استدراجًا، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو به فوقع عند بلوغه إياها، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف باطلاعه على ضميره، وأن إمهال مستدرجه إياه، تركه معاقبته على جرمه، ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه، بكثرة إساءته، وطول عصيانه اياه، وكثرة صفح المستدرج، وطول عفوه عنه أقصى غاية، فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب فالواجب إذاً أن يكون الصحيح من القراءة: "وما يخدعون إلا أنفسهم " دون وما يخادعون لأن لفظ المخادع غيرموجب تثبيت خديعة على صحة، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: "وما يخدعون إلا أنفسهم ".
ومن الدلالة أيضاً على أن قراءة من قرأ: "وما يخدعون " أولى بالصحة من قراءة من قرأ: وما يخادعون، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضاد في المعنى، وذلك غير جائز من الله جل وعز.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: " وما يشعرون ".
يعني بقوله جل ثناؤه "وما يشعرون "، وما يدرون. يقال: ما شعر فلان بهذا الأمر، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
عقوا بسهم ولم يشعر به أحد ثم استفاؤوا وقالوا: حبذا الوضح
يعني بقوله: لم يشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم، بإملائه لهم واستدراجه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعة، ولها في الآجل مضرة، كالذي:حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: سألت ابن زيد عن قوله:"وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" قال: ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم، بما أسروا من الكفر والنفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: "يوم يبعثهم الله جميعًا"، قال: هم المنافقون حتى بلغ "ويحسبون أنهم على شيء" ( المجادلة: 18) قد كان الإيمان ينفعهم عندكم.
قوله تعالى : "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" .
قال علماؤنا : معنى : يخادعون الله أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم . وقيل :قال ذلك لعملهم عمل المخادع . وقيل : في الكلام حذف ، تقديره : يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الحسن وغيره . وجعل خداعهم لرسوله خداعاً له ، لأنه دعاهم برسالته ، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله . ومخادعتهم : ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر ، ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا ، قاله جماعة من المتأولين . وقال أهل اللغة : أصل الخدع في كلام العرب الفساد ، حكاه ثعلب عن ابي الأعرابي . وأنشد :
أبيض اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدع
قلت : :فـ يخادعون الله على هذا ، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء . وكذا جاء مفسراً عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي . وفي التنزيل : "يراؤون الناس" . وقيل : أصله الإخفاء ، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء ، حكاه ابن فارس وغيره . وتقول العرب : أنخدع الضب في جحره .
قوله تعالى : "وما يخدعون إلا أنفسهم" نفي وإيجاب ، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم . ومن كلامهم : من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه . وهذا صحيح ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن ، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه . ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ، وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه قال :
"لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر قالوا : يا رسول الله ، وكيف يخادع الله ؟ قال : تعلم بما أمرك الله به وتطلب به غيره" . وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى : "الله يستهزئ بهم" . وقرأ نافع و ابن كثير وأبو عمرو : يخادعون في الموضعين ، ليتجانس اللفظان . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: "يخدعون" الثاني . والمصدر خدع ( بكسر الخاء ) وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . وقرأ ورق العجلي : يخدعون الله ( بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال ) على التكثير . وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال ، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم ، فحذف حرف الجر ، كما قال تعالى : "واختار موسى قومه" أي من قومه .
قوله تعالى : "وما يشعرون" أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم ، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا ، وإنما ذلك في الدنيا ، وفي الآخرة يقال له "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" على ما يأتي . قال أهل اللغة : شعرت بالشيء أي فطنت له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني .ومنه قولهم : ليت شعري ، أي ليتني علمت .
النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي ، وهو الذي يخلد صاحبه في النار . وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج وبنو النضير وبنوقريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساًفي المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعت بدر قال: هذا. أمر الله قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الاخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " أي يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله" أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا: آمنا بالله وباليوم الاخر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وبقوله: "وما هم بمؤمنين".
وقوله تعالى: "يخادعون الله والذين آمنوا" أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون " ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" ومن القراء من قرأ "وما يخدعون إلا أنفسهم" وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد وقال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما ظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى: "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم يكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.
والخداع في أصل اللغة: الفساد حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد:
أبيض اللون رقيق طعمه طيب الريق إذا الريق خدع
وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر. والمراد بقوله تعالى: 9- " وما يخدعون إلا أنفسهم " الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعتك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يخادعون في الموضعين، وقرأن حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني يخدعون. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأماني الباطلة وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف: والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار -ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: والمراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له: ما النفاق؟ قال: أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة "أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً؟ قال: لا تخادع الله قال: وكيف نخادع الله؟ قال: أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله، فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاف ذلك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً" الآية، و"إن المنافقين يخادعون الله" الآية". وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: "يخادعون الله والذين آمنوا" قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله، والذين آمنوا أنهم يؤمنون بما أظهروه. وعن قوله: " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " أنهم ضروا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "يخادعون الله" قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحزروا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.
" يخادعون الله " أي يخالفون الله وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من الله في قوله "وهو خادعهم" (182-النساء) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. وقيل: أصل الخدع: الفساد، معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر.
وقوله: "وهو خادعهم" أي: يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة فإن قيل ما معنى قوله " يخادعون الله " والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة؟ قيل: قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل. وقال الحسن : معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: " إن الذين يؤذون الله " (57- الأحزاب) أي أولياء الله، وقيل: ذكر الله هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى " فأن لله خمسه وللرسول " (41- الأنفال) وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم " والذين آمنوا " أي و يخادعون المؤمنين بقولهمإذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين. " وما يخدعون " قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد. وقرأ الباقون: وما يخدعون على الأصل.
" إلا أنفسهم " لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى " وما يشعرون " أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .
9-"يخادعون الله والذين آمنوا " الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه ، وعما هو بصدده من قولهم : خدع الضب . إذ توارى في جحره ، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة ، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق ، والمخادعة تكون بين اثنين . وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولأنهم لم يقصدوا خديعة . بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله " . " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " . وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار ، استدراجاً وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة المتخادعين . ويحتمل أن يراد بـ" يخادعون" يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين . ويحتمل أن يراد بـ" يخادعون " يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه ، إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة ، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه ، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ، ويعضده قراءة من قرأ " يخدعون " . وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة ، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد .
" وما يخدعون إلا أنفسهم " قراءة نافع و ابن كثير و وأبي عمرو والمعنى : أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم . أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك . وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية .
وقرأ الباقون " وما يخدعون " ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ و" يخدعون " من خدع و " يخدعون " بمعنى يختدعون و " يخدعون " و " يخادعون " على البناء للمفعول ، ونصب أنفسهم بنزع الخافض ، والنفس ذات الشئ وحقيقته ، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به ، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه ، وللدم لأن قوامها به ، وللماء لفرط حاجتها إليه ، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتاً تأمر وتشير عليه . والمراد ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم .
" وما يشعرون " لا يسون لذلك لتمادي غفلتهم . جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس . والشعور : الإحساس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، وأصله الشعر ومنه الشعار .
9. They think to beguile Allah and those who believe, and they beguile nonesave themselves; but they perceive not.
9 - Fain Would they deceive God and those who believe, But they only deceive themselves, And realize (it) not!