90 - (إن الله يأمر بالعدل) التوحيد أو الإنصاف (والإحسان) أداء الفرائض أو أن تعبد الله كأنك تراه كما في الحديث (وإيتاء) إعطاء (ذي القربى) القرابة خصه بالذكر اهتماما به (وينهى عن الفحشاء) الزنا (والمنكر) شرعا من الكفر والمعاصي (والبغي) الظلم للناس خصه بالذكر اهتماما كما بدأ بالفحشاء كذلك (يعظكم) بالأمر والنهي (لعلكم تذكرون) تتعظون فيه إدغام التاء في الأصل في الذال وفي المستدرك عن ابن مسعود وهذه آية في القرآن للخير والشر
يقول تعالى ذكره : إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل ، وهو الإنصاف ، ومن الإنصاف : الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته ، والشكر له على إفضاله ، وتولي الحمد أهله . وإذا كان ذلك هو العدل ، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحق الحمد عليها كان جهلاً بنا حمدها وعبادتها ، وهي لا تنعم فتشكر ، ولا تنفع فتعبد ، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولذلك قال من قال العدل في هذا الموضع : شهادة أن لا إله إلا الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعلي بن داود : قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ،عن ابن عباس ، قوله "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" قال : شهادة أن لا إله إلا الله .
وقوله "والإحسان" ، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته : الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى ،في الشدة والرخاء ، والمكره والمنشط ، وذلك هو أداء فرائضه .
كما حدثني المثنى وعلي بن داود ، ، قالا : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "والإحسان" يقول : أداء الفرائض .
وقوله "وإيتاء ذي القربى" يقول : وإعطاء ذي القربى الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم .
كما حدثني المثنى وعلي ، قالا : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ،عن ابن عباس : "وإيتاء ذي القربى" يقول : الأرحام .
وقوله "وينهى عن الفحشاء" قال : الفحشاء في هذا الموضع : الزنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ،قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : "وينهى عن الفحشاء" يقول :الزنا ، وقد بينا معنى الفحشاء بشواهده فيما مضى قبل .
وقوله : "والبغي" قيل : عني بالبغي في هذا الموضع : الكبر والظلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "والبغي" يقول : الكبر والظلم . وأصل البغي : التعدي ، ومجاوزة القدر والحد من كل شيء ، وقد بينا ذلك فيما مضى قبل .
وقوله "يعظكم لعلكم تذكرون" يقول : يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه ، وتعرفوا الحق لأهله .
كما حدثني المثنى وعلي بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله ، قال :حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "يعظكم" يقول : يوصيكم "لعلكم تذكرون" . وقد ذكر عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك : إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً ، وإن معنى الإحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته ،وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في هذه الآية ، ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت منصور بن النعمان ، عن عامر ، عن شتير بن شكل ، قال: سمعت عبد الله يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" .... إلى آخر الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبي ، عن شتير بن شكل ، قال : سمعت عبد الله يقول : إن أجمع آية في القرآن لخير أو لشر ، آية في سورة النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" ... الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" .... الآية ، إنه ليس من خلق حسن كل أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه ، إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه . وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها .
فيه ست مسائل :
الأولى قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " "روي عن عثمان بن مظعون أنه قال : لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال : يا آل غالب اتبعوه تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق "و"في حديث إن أبا طالب لما قيل له : إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية قال اتبعوا ابن أخي فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق " وقال عكرمة "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان " إلى آخرها فقال يابن أخي أعد ؟ فأعاد عليه فقال والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لمورق وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر " وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ . "قال عثمان ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي ، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال يابن أخي أعد فأعدت فقال والله إن له لحلاوة " وذكر تمام الحديث وقال ابن مسعود : هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشر يجتنب وحكى النقاش قال يقال زكاة العدل الإحسان وزكاة القدرة العفو وزكاة الغنى المعروف وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه .
الثانية : اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان فقال ابن عباس العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض وقيل : العدل الفرض والإحسان النافلة وقال سفيان بن عيينة العدل ها هنا استواء السريرة والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية علي ابن أبي طالب العدل الإنصاف والإحسان التفضل قال ابن عطية العدل هو كل مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق . والإحسان هو فعل كل مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه ومنها ما هو فرض إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان . وأما قول ابن عباس ففيه نظر لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل ، وذلك هو العدل وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة . وقال ابن العربي العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه وتقديم رضاه على هواه والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر . وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها ، قال الله تعالى " ونهى النفس عن الهوى " وعزوب الأطماع عن الاتباع ولزوم القناعة في كل حال ومعنى . وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ولا يكون منك إساءة غلىاحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى .
قلت : هذا التفصيل في العدل حسن وعدل وأما الإحسان فقد قال علماؤنا : الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا ويقال على معنيين : أحدهما متعد بنفسه كقولك : أحسنت كذا أي حسنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء وثانيهما متعد بحرف جر كقولك : أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينتفع به .
قلت : وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك ، وهو تعالى غني عن إحسانهم ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن . وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني ، فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بآدائها المصححة والمكملة ، ومراقبة الحق فيها ، واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار وهو المراد بقوله ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين : أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله : وجعلت قرة عيني في الصلاة وثانيهما لا تنتهي إلى هذا لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له وإليه الإشارة بقوله تعالى " الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين " وقوله " إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه "
الثالثة : قوله تعالى " وإيتاء ذي القربى " أي القرابة يقول : يعطيهم المال كما قال " وآت ذا القربى حقه " يعني صلته . وهذا من باب عطف المندوب على الواجب وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب على ما يأتي بيانه . وإنما خص ذا القربى لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب ، لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه وجعل صلتها من صلته فـ"قال في الصحيح : أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " ولا سيما إذا كانوا فقراء .
الرابعة : قوله تعالى " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " الفحشاء الفحش وهو كل قبيح من قول أو فعل ابن عباس : هو الزنى والمنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه وهم يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها . وقيل هو الشرك والبغي : هو الكبر والظلم والحقد والتعدي وحقيقته تجاوز الحد وهو داخل تحت المنكر لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره وفي الحديث "عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا ذنب أسرع عقوبة من بغي " و"قال عليه السلام : الباغي مصروع " وقد وقد الله من بغي عليه بالنصر وفي بعض الكتب المنزلة : لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا .
الخامسة : ترجم الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال باب قول الله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " وقوله "إنما بغيكم على أنفسكم " "ثم بغي عليه لينصرنه الله " وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر . ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن بطال : فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر كما دل عليه "حديث عائشة حيث قال عليه السلام : أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا " ووجه ذلك والله أعلم أنه تأول في قول الله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته فإن قيل كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي . قيل وجه ذلك والله أعلم أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله " إنما بغيكم على أنفسكم " وضمن تعالى نصرة من بغي عليه كان الأولى بمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي سحره وقد كان له الانتقام منه بقوله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ولكن آثر الصفح أخذا بقوله " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور"
السادسة : تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تقدم القول فيهما روي أن جماعة رفعت عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء فقام فتى من القوم فقال : يا أمير المؤمنين إن الله يأمر بالعدل والإحسان وأنه عدل ولم يحسن قال : فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل .
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل, وهو القسط والموازنه, ويندب إلى الإحسان, كقوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين", وقوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله", وقال: "والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له" إلى غير ذلك من الايات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن الله يأمر بالعدل" قال: شهادة أن لا إله إلا الله, وقال سفيان بن عيينة, العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً, والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته, والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: "وإيتاء ذي القربى" أي يأمر بصلة الأرحام, كما قال: "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً". وقوله: "وينهى عن الفحشاء والمنكر" فالفواحش المحرمات, والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها, ولهذ قال في الموضع الاخر: "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن" وأما البغي فهو العدوان على الناس, وقد جاء في الحديث "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الاخرة من البغي وقطيعة الرحم". وقوله: "يعظكم" أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر "لعلكم تذكرون" وقال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الاية, رواه ابن جرير, وقال سعيد عن قتادة قوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الاية ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها. (قلت) ولهذا جاء في الحديث "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة: حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي, حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم, حدثنا الحسن بن داود المنكدري, حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير, عن أبيه, قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأيته, فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه, قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه, فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي, وهو يسألك من أنت, وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله, وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله" قال: ثم تلا عليهم هذه الاية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الاية, قالوا: اردد علينا هذا القول, فردده عليهم حتى حفظوه, فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه, فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر ـ أي شريفاً ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها, فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق, وينهى عن ملائمها, فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا أذناباً, وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون, فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس ؟ فقال: بلى, قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله, فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء, فنظر ساعة إلى السماء, فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض, فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره, فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له, وابن مظعون ينظر, فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له, شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة, فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء, فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى, فقال: يامحمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة, فقال: "وما رأيتني فعلت ؟" قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء, ثم وضعته حيث وضعته على يمينك, فتحرفت إليه وتركتني, فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك, قال: "وفطنت لذلك ؟" فقال عثمان: نعم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس" قال: رسول الله ؟ قال "نعم", قال: فما قال لك ؟ قال: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الاية, قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم , إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصراً. حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك, قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب, عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاية بهذا الموضع من هذه السورة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الاية, وهذا إسناد لا بأس به, ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين, والله أعلم.
ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك فقال: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان".
وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، وقيل العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقيل العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين، وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا هو معنى الإحسان شرعاً "وإيتاء ذي القربى" أي إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف المندوب على الواجب، ومثل هذه الآية قوله: "وآت ذا القربى حقه" وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته "وينهى عن الفحشاء" هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل، وقيل هي الزنا، وقيل البخل "والمنكر" ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها وقيل هو الشرك "و" أما "البغي" فقيل هو الكبر، وقيل الظلم، وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر، وإنما خص بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره ووبال عاقبته، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه: "إنما بغيكم على أنفسكم" وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله: "يعظكم لعلكم تذكرون" أي يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه، فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، لعلكم تذكرون إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويوم نبعث من كل أمة شهيداً" قال: شهيدها نبيها على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله: "وجئنا بك شهيداً على هؤلاء" قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فألقوا إليهم القول" قال: حدثوهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" قال: استسلموا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن مسعود في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: "زدناهم عذاباً فوق العذاب"، فقال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم" وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: خمسة أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار. وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار: ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار" فلذلك قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، ثم قرأ "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن الضريس في فضائل القرآن ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الآية". وفي إسناده شهر بن حوشب. وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده لا بأس به. وقد أخرجه مطولاً أحمد والبخاري في الأدب وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وحسن ابن كثير إسناده. وأخرج الباوردي وابن السكن وابن منده وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب قال: إني أراه يأمره بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً، وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إن الله يأمر بالعدل" قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء لفرائض "وإيتاء ذي القربى" قال: إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم "وينهى عن الفحشاء" قال: الزنا "والمنكر" قال الشرك "والبغي" قال: الكبر والظلم "يعظكم" قال: يوصيكم "لعلكم تذكرون"، وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب ومحمد بن نصر في الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: أعظم آية في كتاب الله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " وأشد آية في كتاب الله رجاء "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" إلى آخرها ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه. وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذلك في كتابه إذ يقول: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" فالعدل والإنصاف، والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا؟
90 - قوله عز وجل : " إن الله يأمر بالعدل " ، بالإنصاف ، " والإحسان " ، إلى الناس .
وعن ابن عباس ( العدل ) : التوحيد ، و ( الإحسان ) : أداء الفرائض.
وعنه : ( الإحسان ) : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " .
وقال مقاتل : ( العدل ) : التوحيد ، و( الإحسان ) : العفو عن الناس .
" وإيتاء ذي القربى " ،صلة الرحم .
" وينهى عن الفحشاء " ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، " والمنكر " ، ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، " والبغي " ، الكبر والظلم .
وقال ابن عيينة : ( العدل ) استواء السر والعلانية ، و( الإحسان ) أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و ( الفحشاء والمنكر ) أن تكون علانيته أحسن من سريته .
" يعظكم لعلكم تذكرون " ، تتعظون .
قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية .
وقال أيوب عن عكرمة : "إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : " إن الله يأمر بالعدل " إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ".
90."إن الله يأمر بالعدل "بالتوسط في الأمور اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الخبر والقدر ، وعملاً كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير."والإحسان "إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة والسلام "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.""وإيتاء ذي القربى " وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة . "وينهى عن الفحشاء"عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها."والمنكر"ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية . "والبغي "والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضى الله عنه: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر . وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين،
ولعل إيرادها عقب قوله: " ونزلنا عليك الكتاب " للتنبيه عليه." يعظكم" بالأمر والنهي والميز بين الخير والشر ."لعلكم تذكرون "تتعظون.
90. Lo! Allah enjoineth justice and kindness, and giving to kinsfolk, and forbiddeth lewdness and abomination and wickedness. He exhorteth you in order that ye may take heed.
90 - God commands justice, the doing of good, and liberality to kith and kin, and he forbids all shameful deeds, and injustice and rebellion: he instructs you, that ye may receive admonition.