(ولقد جاءكم موسى بالبينات) بالمعجزات كالعصا واليد وفلق البحر (ثم اتخذتم العجل) إلها (من بعده) من بعد ذهابه إلى الميقات ، (وأنتم ظالمون) باتخاذه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ولقد جاءكم موسى بالبينات "، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته، كالعصا التي تحولت ثعباناً مبيناً، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين. وفلق البحر ومصير أرضه له طريقاً يبسًا، والجراد والقفل والضفادع، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته.
وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك له. وإنما هي جمع بينة، مثل: طيبة وطيبات .
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته.
وقوله: "ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون "، يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلهاً. فـ الهاء التي في قوله: "من بعده"، من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيًا إلى ربه لموعده على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد يجوز أن تكون الهاء التي في (بعده) إلى ذكر المجيء. فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون. كما تقول: جئتني فكرهته ، يعني: كرهت مجيئك.
وأما قوله: "وأنتم ظالمون"، فإنه يعني بذلك: أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه. لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلهاً. وهو لا يملك لهم ضرًا ولا نفعاً، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم، التي زعموا أنهم بها مؤمنون، من صفته ونعته، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة- أسرع، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
قوله تعالى: "ولقد جاءكم موسى بالبينات" اللام لام القسم . والبينات قوله تعالى : "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" وهي العصا ، والسنون ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر . وقيل :البينات التوارة ، وما فيها من الدلالات .
قوله تعالى : "ثم اتخذتم العجل" توبيخ ، و ثم أبلغ من الواو في التقريع ، أي بعد النظر في الآيات والإتيان بها اتخذتم . وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم لجرمهم .
يقول تعالى: "وإذا قيل لهم" أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب "آمنوا بما أنزل الله" على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه "قالوا نؤمن بما أنزل علينا" أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك "ويكفرون بما وراءه" يعني بما بعده "وهو الحق مصدقاً لما معهم" أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "الحق مصدقاً لما معهم" منصوباً على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" ثم قال تعالى: "فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين" أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاراء والتشهي، كما قال تعالى: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" وقال السدي: في هذه الاية يعيرهم الله تبارك وتعالى: "قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين" وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم "ولقد جاءكم موسى بالبينات" أي بالايات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والايات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد ، وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الايات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه، وقوله: من بعده، أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: "واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار"، "وأنتم ظالمون" ، أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين" .
واللام في قوله: 92- "ولقد" جواب لقسم مقدر. والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" ويجوز أن يراد الجميع ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عناداً بعد قيام الحجة عليكم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق" قال: هو القرآن "مصدق لما معهم" من التوراة والإنجيل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، لأن معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا: إن نبياً ليبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا". وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمداً في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبياً فيقاتلون معه العرب، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل. وقد روي نحو هذا عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة ومعانيها متقاربة. وروي عن غيره من السلف نحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "بئسما اشتروا به أنفسهم" قال: هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً للعرب "فباءوا بغضب على غضب" قال: غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى وبكفرهم بالقرآن وبمحمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بغياً أن ينزل الله" أي أن الله جعله من غيرهم "فباءوا بغضب" بكفرهم بهذا النبي "على غضب" كان عليهم بما صنعوه من التوراة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج أيضاً عن مجاهد معناه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ويكفرون بما وراءه" قال: بما بعده. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: بما وراءه: أي القرآن.
92. قوله عز وجل " ولقد جاءكم موسى بالبينات " بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة/ " ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون "
92-" ولقد جاءكم موسى بالبينات " يعني الآيات المذكورة في قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " " ثم اتخذتم العجل " أي إلهاً " من بعده " من بعد مجيء موسى ، أو ذهابه إلى الطور " وأنتم ظالمون " حال ، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله تعالى ، أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم . ومساق الآية أيضاً لإبطال قولهم " نؤمن بما أنزل علينا " والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام ، لا لتكرير القصة وكذا ما بعده .
92. And Moses came unto you with clear proofs (of Allah's sovereignty), yet,while he was away, ye chose the calf (for worship) and ye were wrongdoers.
92 - There came to you Mouses with clear (signs); yet ye worshipped the calf (even) after that, and ye did behave wrongfully