(ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم (والله عليم بالظالمين) الكافرين فيجازيهم
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال، ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرًا إلا كان حقاً كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفاً أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي:حدثني محمدبن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمدبن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبوجعفر عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة" الآية، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم "، أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ولن يتمنوه أبدا"، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدًا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، وكانت اليهود أشد فرارًا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدًا. وأما قوله: "بما قدمت أيديهم "، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك ، فتضيف ذلك إلى اليد. ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.
قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى اليد، لأن عظم جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.
فلذلك قال جل ثناؤه للعرب: "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم"، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم من حسد محمد صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه وجحود رسالته إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "بما قدمت أيديهم"، يقول: بما أسلفت أيديهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "بما قدمت أيديهم"، قال: إنهم عرفوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، فكتموه.
وأما قوله: "والله عليم بالظالمين"، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها وما يعملون.
وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.
وقد دللنا على معنى الظلم فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
لما ادعت اليهود دعاوى باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه ، كقوله تعالى : "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" وقوله :"وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" وقالوا : "نحن أبناء الله وأحباؤه" . أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال : قل لهم يا محمد : "إن كانت لكم الدار الآخرة" يعني الجنة "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" في أقوالكم ، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا ، لما يصير إليه من نعيم الجنة ، ويزول عنه من أذى الدنيا ، فأحجموا عن تمني ذلك فرقاً من الله لقبح اعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم : "نحن أبناء الله وأحباؤه" ، وحرصهم على الدنيا ، ولهذا قال تعالى مخبراً بقوله الحق : "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" تحقيقاً لكذبهم . وايضاً لو تمنوا الموت لماتو ا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلن أنه قال :
"لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار" . وقيل : إن الله صرفهم عن إظهار التمني ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمني . وحكى عكرمة عن ابن عباس في قوله : "فتمنوا الموت" أن المراد ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم ، فما دعوا لعلمهم بكذبهم .
فإن قيل : فالتمني يكون باللسان تارةً وبالقلب أخرى ، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم ؟ قيل له : نطق القرآن بذلك بقوله : "ولن يتمنوه أبدا" ولو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم رداً على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالاً لحجته ، وهذا بين .
قوله تعالى : "خالصة" نصب على خبر كان ، وإن شئت كان حالاً ، ويكون عند الله في موضع الخبر . "أبدا" ظرف زمان يقع على القليل والكثير ، كالحين والوقت ، وهو هنا من أول العمر إلى الموت . و ما في قوله بما بمعنى الذي والعائد محذوف ، والتقدير قدمته ، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد . و أيديهم في موضع رفع ، حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة ، وإن كانت في موضع نصب حركتها ، لأن النصب خفيف ، ويجوز إسكانها في الشعر . "والله عليم بالظالمين" ابتداء وخبر .
قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين" أي بعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت، لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً"، حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي، حدثنا فرات عن عبد الكريم به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم، قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين، قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت"ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" وهذا غريب عن الحسن، ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الاية، هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى، ونظير هذه الاية قوله تعالى في سورة الجمعة "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" فهم عليهم لعائن الله تعالى، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهوداً أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نكلوا عن ذلك، علم كل أحد إنهم ظالمون، لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه، لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا، علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال: "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" فلما رأوا ذلك، قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً" أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
أما من فسر الاية على معنى "إن كنتم صادقين" أي في دعواكم، فتمنوا الان الموت، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة، كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس " الاية، فهذه الاية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الاخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة، فقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون، من أن الدار الاخرة لكم خاصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها، أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فيه نظر ، وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم، أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث "خيركم من طال عمره، وحسن عمله" ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم ؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الاية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس: فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار ، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه، نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وسميت هذه المباهلة تمنياً، لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى: " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة " أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وعاقبتهم عند الله الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الاخرة بكل ما أمكنهم، وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس "ومن الذين أشركوا ؟" قال: الأعاجم، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي، وقال الحسن البصري: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أحد اليهود، كما يدل عليه نظم السياق، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد المجوس، وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة، قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال: هو كقول الفارسي ده هزارسال يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو قول الأعاجم هزارسال نوروز ومهرجان وقال مجاهد "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر ، وقال مجاهد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" أي وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الاخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم، وقال عوفي عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" قال: هم الذين عادوا جبرائيل، قال أبو العالية وابن عمر : فما ذاك بمغيثه من العذاب، ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الاية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً، "والله بصير بما يعملون" أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله.
ولهذا قال سبحانه: 95- "ولن يتمنوه أبداً" وما في قوله: "بما قدمت أيديهم" موصولة والعائد محذوف: أي بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب بل غير طامع في دخول الجنة، فضلاً عن كونه قاطعاً بها فضلاً عن كونها خالصة له مختصة به- وقيل: إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بالتمني هنا: هو التلفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرئ على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم ذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت، إما لأمر قد علموه، أو للصرفة من الله عز وجل. وقد يقال: ثبت النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهي عنه في شريعته. ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم. وقوله: "والله عليم بالظالمين" تهديد لهم وتسجيل عليهم بأنهم كذلك.
95. قال الله تعالى: " ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم " لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون وأراد (بما قدمت أيديهم) أي ما قدموه من الأعمال وأضافها إلى اليد [دون سائر الأعضاء] لأن أكثر جنايات الانسان تكون باليد فأضيف إلى اليد أعماله وإن لم يكن لليد فيها عمل " والله عليم بالظالمين ".
95-" ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم " من موجبات النار ، كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، وتحريف التوراة . ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان ، آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه ، عبر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى ، وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر ، لأنهم لو تمنوا لنقل واشتهر ، فإن التمني ليس من عمل القلب ليخفى ، بل هو أن يقول : ليت لي كذا ، ولو كان بالقلب لقالوا : تمنينا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهودي " . " والله عليم بالظالمين " تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم .
95. But they will never long for it, because of that which their own hands have sent before them. Allah is Aware of evildoers.
95 - But they will never seek for death, on account of the (sins) which their hands have sent on before them. and God is well acquainted with the wrong doers.