(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) بالمقام مع الكفار وترك الهجرة (قالوا) لهم موبخين (فيم كنتم) أي شيء كنتم في أمر دينكم (قالوا) معتذرين (كنا مستضعفين) عاجزين عن إقامة الدين (في الأرض) أرض مكة (قالوا) لهم توبيخا (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) من أرض الكفر إلى بلد آخر كما فعل غيركم قال الله تعالى (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) هي
قوله تعالى إن الذين توفاهم الآية روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبه بن ربيعة وعمرو بن امية بن سفيان وعلي ابن أمية بن خلف وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر وأخرجه ابن ابي حاتم وزاد منهم الحرث بن زمعة بن الأسود والعاص ابن منبه بن الحجاج
واخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله إلا المستضعفين
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمين هؤلاء كانوا مسلمون فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت إن الذين توفاهم الملائكة الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله فكتب اليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا الآية فكتبوا اليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل واخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "إن الذين توفاهم الملائكة"، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة، "ظالمي أنفسهم"، يعني : مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه.
وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل.
"قالوا فيم كنتم"، يقول : قالت الملائكة لهم : "فيم كنتم"، في أي شيء كنتم من دينكم ، "قالوا كنا مستضعفين في الأرض"، يعني : قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم : "كنا مستضعفين في الأرض"، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم ، فيمنعونا من الإيمان بالله ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرة ضعيفة وحجة واهية ، "قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، يقول : فتخرجوا من أرضكم ودوركم ، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله ، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه ، وتتبعوا نبيه؟.
يقول الله جل ثناؤه : "فأولئك مأواهم جهنم"، أي : فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، "مأواهم جهنم"، يقول : مصيرهم في الآخرة جهنم ، وهي مسكنهم ، "وساءت مصيرا"، يعني : وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها، "مصيرا" ومسكناً ومأوى.
المراد بها جماعة من أهل مكة قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم به فلما هاجروا النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن نهم جماعة فافتتنوا فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم من الكفار، فنزلت الآية. وقيل: إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم فنزلت الآية والأول أصح روى البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال :
قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى :" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" .
قوله تعالى :"توفاهم الملائكة " يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً لم يستند بعلامة تأنيث إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلاً مستقبلاً على معنى تتوفاهم فحذفت إحدى التاءين وحكي ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار وقيل: تقبض أرواحهم وهو أظهر وقيل: المراد الملائكة ملك الموت لقوله تعالى :" قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " [السجدة :11] و" ظالمي أنفسهم " نصب على الحال أي في حال ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافاً وأضاف، كما قال تعالى :" هديا بالغ الكعبة " [ المائدة : 95] وقول الملائكة :" فيم كنتم " سؤال تقريع وتوبيخ أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين وقول هؤلاء :" كنا مستضعفين في الأرض" يعني مكة اعتذار غير صحيح إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم " ألم تكن أرض الله واسعة " ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا وإنما أضرب عن ذكرهم قي الصحابة لشدة ما واقعوه ولعدم تعين أحدهم بالإيمان واحتمال ردته، والله أعلم. ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في " مأواهم " من كان مستضعفاً حقيقة من زمن الرجال وضعفة النساء والولدان كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عيه وسلم قال ابن عياش: كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية وذلك أنه كان من الوالدان إذ ذاك،وأمة هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة، وهي أخت ميمونة وأختها الأخرى لبابة الصغرى، وهن تسع أخوات "قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن:
الأخوات مؤمنات " ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة: أم حفيد واسمها هزيلة، هن ست شقائق وثلاث لأم وهن سلمى وسلامة وأسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، ثم امرأة أبي بكر الصديق ثم امرأة عليه رضي الله عنهم أجمعين .
قوله تعالى :" فيم كنتم " سؤال توبيخ، وقد تقدم والأصل فيما ثم حذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر، والوقف عليها فيمه لئلا تحذف الألف والحركة والمراد بقوله: " ألم تكن أرض الله واسعة " المدينة أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة التباعد ممن كان يستضعفكم وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها وتلا " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " و"روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام" " فأولئك مأواهم جهنم " أي مثواهم النار وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم " وساءت مصيرا" نصب على التفسير وقوله "لا يستطيعون حيلة " الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص والسبيل سبيل المدينة فيما ذكر مجاهدو السدي وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل وقوله تعالى :" فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه، ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم، إذ لا يجب تحمل غاية المشقة بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة، فمعنى الآية: فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة ولهذا قال : " وكان الله عفوا غفورا" والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد وقد تقدم .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا حيوة وغيره, قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود, قال: قطع على أهل المدينة بعث, فاكتتبت فيه, فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته, فنهاني عن ذلك أشد النهي, قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم, فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل, فأنزل الله "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم", وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا محمد بن شريك المكي, حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام, فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم, فنزلت "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الاية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاية لا عذر لهم. قال: فخرجوا, فلحقهم المشركون, فأعطوهم التقية, فنزلت هذه الاية "ومن الناس من يقول آمنا بالله" الاية. قال عكرمة: نزلت هذه الاية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبه بن الحجاج والحارث بن زمعة, قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب, فنزلت هذه الاية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين, وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع, وبنص هذه الاية, حيث يقول تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" أي بترك الهجرة "قالوا فيم كنتم" أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة "قالوا كنا مستضعفين في الأرض" أي لا نقدر على الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض "قالوا ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان, حدثني يحيى بن حسان, أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود, حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب, حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة, عن سمرة بن جندب, أما بعد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله", وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "افد نفسك وابن أخيك" فقال: يا رسول الله, ألم نصل إلى قبلتك, ونشهد شهادتك, قال "يا عباس, إنكم خاصمتم فخصمتم", ثم تلا عليه هذه الاية "ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وراه ابن أبي حاتم.
وقوله: "إلا المستضعفين" إلى آخر الاية, هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة, وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين, ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق, ولهذا قال: "لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً", قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً.
وقوله تعالى: "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة, عسى من الله موجبة, "وكان الله عفواً غفوراً", قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا شيبان عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده, ثم قال قبل أن يسجد "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو معمر المقري, حدثني عبد الوارث, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة, فقال: "اللهم خلص الوليد بن الوليد, وعياش بن أبي ربيعة, وسلمة بن هشام, وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار". وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر "اللهم خلص الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا", ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة, عن ابن عباس "إلا المستضعفين" قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
وقوله: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة", هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه, والمراغم مصدر تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة, قال النابغة بن جعدة:
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد: "مراغماً كثيراً" يعني متزحزحاً عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: مراغماً كثيراً يعني بروجاً, والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يتحصن به ويراغم به الأعداء. قوله "وسعة" يعني الرزق, قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال: في قوله: " يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " أي من الضلالة إلى الهدى, ومن القلة إلى الغنى, وقوله: "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن علقمة بن وقاص الليثي, عن عمر بن الخطاب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً: هل له من توبة ؟ فقال له, ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الاخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً, وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها, فأمر الله هذه أن تقترب من هذه, وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر, فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه عبد الله بن عتيك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله, ثم قال: ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ يعني بحتف أنفه على فراشه, والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ومن قتل قعصاً فقد استوجب الجنة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي, حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي, عن المنذر بن عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه, أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً", قال الزبير, فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة, فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني, لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله, أو ذوي رحمه, ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى, ولا أرجو غيره, وهذا الأثر غريب جداً, فإن هذه القصة مكية, ونزول هذه الاية مدنية, فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر, حدثنا سهل بن عثمان, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثنا أشعث هو ابن سوار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله" الاية, وحدثنا أبي, حدثنا عبدالله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة, فلما نزلت "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة" فقلت: إني لغني, وإني لذو حيلة, فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم, فنزلت هذه الاية "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الاية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري, حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه, حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري, أنبأنا أبو مالك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قال: من انتدب خارجاً في سبيلي غازياً ابتغاء وجهي, وتصديق وعدي, وإيماناً برسلي فهو في ضمان على الله, إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة, وإما أن يرجع في ضمان الله, وإن طالب عبداً فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر, أو غنيمة, ونال من فضل الله فمات, أو قتل, أو رفصته فرسه, أو بعيره, أو لدغته هامة, أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله, فهو شهيد". وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره, وزاد بعد قوله: فهو شهيد, وإن له الجنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجاً فمات, كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة, ومن خرج معتمراً فمات, كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة, ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات, كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
قوله 97- "توفاهم" يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً وحذفت منه علامة التأنيث، لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون مستقبلاً، والأصل تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار- وقيل: تقبض أرواحهم وهو الأظهر. والمراد بالملائكة ملائكة الموت لقوله تعالى "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم". وقوله "ظالمي أنفسهم" حال: أي في حال ظلمهم أنفسهم، وقول الملائكة "فيم كنتم" سؤال توبيخ: أي في شيء كنتم من أمور دينكم؟ وقيل: المعنى أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين، وقيل: إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين. وقولهم "كنا مستضعفين في الأرض" يعني: مكة، لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر كما سيأتي، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم وألزمتهم الحجة وقطعت معذرتهم فقالوا "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" قيل: المراد بهذه الأرض المدينة، والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح الهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها. قوله "مأواهم جهنم" هذه الجملة خبر لأولئك والجملة خبر إن في قوله "إن الذين توفاهم الملائكة" ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط "وساءت" أي جهنم "مصيرا" أي: مكاناً يصيرون إليه.
97-قوله تعالى:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا ، منهم: قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما ، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار، فقال الله تعالى:"إن الذين توفاهم الملائكة"، أراد به ملك الموت وأعوانه ، أو أراد ملك الموت وحده، كما قال تعالى:"قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم"(السجدة-11) ، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع" ظالمي أنفسهم" بالشرك، وهو نصب على الحال أي: في حال ظلمهم ، قيل: أي بالمقام في دار الشرك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" وهؤلاء قتلوا يوم بدر وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقالوا لهم: فيم كنتم؟ فذلك قوله تعالى:"قالوا فيم كنتم"أي: في ماذا كنتم؟ أو في أي الفريقين كنتم؟ أفي المسلمين؟ أم في المشركين ؟ سؤال توبيخ وتعيير فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك،و"قالوا كنا مستضعفين"، عاجزين،"في الأرض"،يعني: إلى المدينة وتخرجوا من مكة، من بين أهل الشرك؟ يعني أرض مكة،"قالوا"يعني: الملائكة "ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها"،يعني:إلى المدينة وتخرجوا من مكة، من بين أهل الشرك؟ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم ، وقال:"فأولئك مأواهم"، منزلهم"جهنم وساءت مصيراً"، أي : بئس المصير إلى جهنم.
97" إن الذين توفاهم الملائكة " يحتمل الماضي والمضارع، وقرئ " توفتهم " و " توفاهم " على المضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. " ظالمي أنفسهم " في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة. " قالوا " الملائكة توبيخاً لهم. " فيم كنتم " أي في أي شيء كنتم من أمر دنياكم. " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله. " قالوا " أي الملائكة تكذيباً لهم وتبكيتاً. " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة. " فأولئك مأواهم جهنم " لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار. وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط، وقالوا فيما كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم، وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها. " وساءت مصيرا " مصيرهم نار جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه،وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة،وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام".
97. Lo! as for those whom the angels take (in death) while they wrong themselves, (the angels) will ask: In what were ye engaged? They will say : We were oppressed in the land. (The angels) will say: Was not Allah's earth spacious that ye could have migrated therein? As for such, their habitation will be hell, an evil journey's end;
97 - When angels take the souls of those who die in sin against their souls, they say: in what (plight) were ye? they reply: weak and oppressed were we in the earth. they say: was not the earth of God spacious enough for you to move yourselves away (from evil)? such men will find their abode in hell, what an evil refuge