(إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) الذين (لا يستطيعون حيلة) لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة (ولا يهتدون سبيلا) طريقا إلى أرض الهجرة
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون - "من الرجال والنساء والولدان"، وهم العجزة عن الهجرة، بالعسرة، وقلة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق ، من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام ، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم -أن تكون جهنم مأواهم ، للعذر الذي هم فيه ، على ما بينه تعالى ذكره.
ونصب "المستضعفين" على الاستثناء من الهاء والميم اللتين في قوله : "فأولئك مأواهم جهنم".
قوله تعالى : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا "
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا حيوة وغيره, قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود, قال: قطع على أهل المدينة بعث, فاكتتبت فيه, فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته, فنهاني عن ذلك أشد النهي, قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم, فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل, فأنزل الله "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم", وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا محمد بن شريك المكي, حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام, فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم, فنزلت "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الاية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاية لا عذر لهم. قال: فخرجوا, فلحقهم المشركون, فأعطوهم التقية, فنزلت هذه الاية "ومن الناس من يقول آمنا بالله" الاية. قال عكرمة: نزلت هذه الاية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبه بن الحجاج والحارث بن زمعة, قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب, فنزلت هذه الاية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين, وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع, وبنص هذه الاية, حيث يقول تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" أي بترك الهجرة "قالوا فيم كنتم" أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة "قالوا كنا مستضعفين في الأرض" أي لا نقدر على الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض "قالوا ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان, حدثني يحيى بن حسان, أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود, حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب, حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة, عن سمرة بن جندب, أما بعد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله", وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "افد نفسك وابن أخيك" فقال: يا رسول الله, ألم نصل إلى قبلتك, ونشهد شهادتك, قال "يا عباس, إنكم خاصمتم فخصمتم", ثم تلا عليه هذه الاية "ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وراه ابن أبي حاتم.
وقوله: "إلا المستضعفين" إلى آخر الاية, هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة, وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين, ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق, ولهذا قال: "لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً", قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً.
وقوله تعالى: "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة, عسى من الله موجبة, "وكان الله عفواً غفوراً", قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا شيبان عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده, ثم قال قبل أن يسجد "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو معمر المقري, حدثني عبد الوارث, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة, فقال: "اللهم خلص الوليد بن الوليد, وعياش بن أبي ربيعة, وسلمة بن هشام, وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار". وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر "اللهم خلص الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا", ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة, عن ابن عباس "إلا المستضعفين" قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
وقوله: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة", هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه, والمراغم مصدر تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة, قال النابغة بن جعدة:
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد: "مراغماً كثيراً" يعني متزحزحاً عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: مراغماً كثيراً يعني بروجاً, والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يتحصن به ويراغم به الأعداء. قوله "وسعة" يعني الرزق, قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال: في قوله: " يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " أي من الضلالة إلى الهدى, ومن القلة إلى الغنى, وقوله: "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن علقمة بن وقاص الليثي, عن عمر بن الخطاب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً: هل له من توبة ؟ فقال له, ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الاخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً, وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها, فأمر الله هذه أن تقترب من هذه, وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر, فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه عبد الله بن عتيك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله, ثم قال: ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ يعني بحتف أنفه على فراشه, والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ومن قتل قعصاً فقد استوجب الجنة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي, حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي, عن المنذر بن عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه, أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً", قال الزبير, فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة, فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني, لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله, أو ذوي رحمه, ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى, ولا أرجو غيره, وهذا الأثر غريب جداً, فإن هذه القصة مكية, ونزول هذه الاية مدنية, فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر, حدثنا سهل بن عثمان, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثنا أشعث هو ابن سوار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله" الاية, وحدثنا أبي, حدثنا عبدالله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة, فلما نزلت "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة" فقلت: إني لغني, وإني لذو حيلة, فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم, فنزلت هذه الاية "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الاية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري, حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه, حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري, أنبأنا أبو مالك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قال: من انتدب خارجاً في سبيلي غازياً ابتغاء وجهي, وتصديق وعدي, وإيماناً برسلي فهو في ضمان على الله, إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة, وإما أن يرجع في ضمان الله, وإن طالب عبداً فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر, أو غنيمة, ونال من فضل الله فمات, أو قتل, أو رفصته فرسه, أو بعيره, أو لدغته هامة, أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله, فهو شهيد". وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره, وزاد بعد قوله: فهو شهيد, وإن له الجنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجاً فمات, كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة, ومن خرج معتمراً فمات, كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة, ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات, كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
قوله 98- "إلا المستضعفين" هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره. وقوله "من الرجال والنساء والولدان" متعلق بمحذوف، أي: كائنين منهم، والمراد بالمستضعفين من الرجال الزمنى ونحوهم، والولدان كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفاً، وقيل: أراد بالولدان المراهقين والمماليك. قوله "لا يستطيعون حيلة" صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان، أو حال من الضمير في المستضعفين، وقيل: الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص: أي: لا يجدون حيلة ولا طريقاً إلى ذلك، وقيل السبيل: سبيل المدينة.
98-ثم استثنى أهل العذر منهم، فقال:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة " لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا قوة للخروج منها،"ولا يهتدون سبيلاً"، أي : لا يعرفون طريقاً إلى الخروج .وقال مجاهد لا يعرفون طريق المدينة .
98" إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضمير الإشارة إليه، وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر، وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت. " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه، أو حال منه أو من المستكن فيه. واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه، واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.
98. Except the feeble among men, and the women, and the children, who are unable to devise a plan and are not shown a way.
98 - Except those who are (really) weak and oppressed men, women, and children who have no means in their power nor (a guide post) to direct their way.